سفر في وريد مقطوع
نظرت طويلاً في الصورة المعلقة على الجدار بلا إطار، فيها أشياء كثيرة تشبهك الشعر المبعثر كخيوط الشمس فوق كتفك... المطر الأبدي الحزين الغارق في الأهداب وعينيك النجلاوين.
وعلى رف المكتبة نظرت في صورتي المحاطة بإطار ذهبي حين كانت لحيتي السوداء منذورة لفتاة في الغربة.
اشتريت الصورة فقط من أجل عينيك المخلوقتين فيها كالمعجزة. وقبل أن تستعبدني الذكرى وتضعفني، وأمام الانتظار الطويل لأحد المرضى الأشقياء. أقفلت باب العيادة وصرفت الممرضة.
تعب المطر... فنام في البرك وثقوب الأرصفة. مشيت كما يمشي جميع الرجال بمحاذاة أفواه الدكاكين. كل شيء ينادي أن أشتريه (قهوة -علبة سجائر- منظفات- مجلات).
وقفت مشدوهاً أمام واجهة المكتبة حين لمحت بسرعة كتاباً صغيراً بحجم الكف الكبير مكتوباً عليه اسمك بالأصفر، وأنا الوحيد الذي أعلم بأنك تحبين الأصفر وتحبين زهرة عباد الشمس لأنها تدير وجهها بقوة ومتعة في وجه الشمس، في البيت قرأت كتابك في الشرفة، دخنت علبة من السجائر وفي الليل لفّ صوتي في اختناق فأيقظتني زوجتي ومسحت وجهي بحفنة من الماء.
في الكابوس تحولت حروفك المتصلة إلى حبل وصارت تعصرني وتغبّ من دمي.
وصلتني رسالتك بأنك تحتضرين- لم أصدق- لأني مثل أهلك، أحسّ بأنك ستعيشين لتشهدي دفن الجميع.
فوق تربتك بدأت أصغر وتحتها بدأت تكبرين، ومن خلف قضبان صدري أقف كالمحكوم لأبرر لك وأدافع مرة عن نفسي فقد طال صمتي، وأنت قلت بأن الصمت يقتل حين يستدعي الحدث كلمة واحدة ولا ننطقها.
فوق سريرك في الطابق التاسع كنت تشردين، ترتسم سفن الميناء بعينيك وأنت تحكين لجيرانك المرضى قصص عشتار وأندروماك وآلهة اليونان. تمنيت لو سمعتها منك بالتفصيل أنشدّ عبر صوتك في الزمن المخلد بحكاية.
في إحدى المساءات الحلوة، جسست لك النبض، نسيت الإشارة الحمراء التي تفصل بين عبوري من نفسي إليك، خرج من عينينا لمع خفيف لا توقفه قوى الأرض كلها. ولا الحراس ولا القانون. ولا اللّه. لم أنم ليلتها رغم مناوبتي وتعبي حتى الصباح في غرفة الانعاش. أصابعي مدبقة بدمعك مسحتها وأنت تتوسلين لي أن أريحك من آلامك بإبرة في الوريد. ووعدتك مازحاً بطريقة تريحك وبدأت الوخز بالروح حتى الموت. كنت أمزح، كنت أكذب. نسيت بأن المزاح سيرتدي في يوم موتك لون الكحل.
كنت مطروحة فوق السرير، تقرئين، تنامين وحدك، وتستفيقين لا أب يسأل ولا أخ ولا قريب. أخبرتني بأن أمك قبل عشر سنين لطمت وجهها، وشدّت شعرها، وفي انهيارك في المشفى للمرة الثانية بكت واعتقلت ألف دمعة.
ولما صار الألم مستمراً ومملاً صارت تزورك بضحكة مخضبة بالحسرة.
قبل ست سنوات من الآن كنت أترك لحيتي السوداء على سجيتها، كنت كالمجنون بالحفظ، حفظ شكل العظام، ومسيرات الدماء، ومناطق تواجد الأوردة. لي طموح واحد، أن أرجع إلى بلدي بلقب طبيب، أخرج من باب هذا المشفى ولا أعود إليه.
قبل أن أثور بدمعك الصافي كالفضة لم أفهم ما معنى الإنسانية كان الوريد أنبوباً رفيعاً يحرّك أجساداً تالفة، وبعدك صار له شكل آخر ولون ورائحة لم نقرأ عنها في كتب الطب. صار له همس القصب وانحناءات نهر بين الحصى وتحت خشب المراكب.
يا من بدأت تفتحين أبوابك في رياضي لتحويني في حضن اللّه... قصائدك قبل أن تنشر في كتاب لم أفهمها في مسودتها، لأني لم أرد أن أفهمها ربما لضيق الوقت أو لانشغالي بالأهم. مررتِ بي كما تمر نجمة في وضح النهار ولا نراها لأن الشمس أقوى من كلّ الكواكب.
نشتم رائحة الزبالة ولو كانت في يدنا وردة حين نمر بالقمامة الفائضة على الأرصفة لأننا لا ننشدّ لسوى الأقوى... لسوى الأكثر والأكبر. حين نختلي بأنفسنا بين أربعة جدران لا نجد وقتاً للصلاة ولا نفكر حين ننظر إلى ستائر النافذة بسوى نوعية قماشها وطريقة حياكتها.
مذ فهمت نظرتك الأولى حذرتك مني. من ذاك الحقد والبعد بيني وبين النساء.
(عبير) رجمت قلبي بليرات زوجها الجديد. حين سافرت لتكمل دراستها في روسيا أعطتني منديلها المغمس بالعطر والدموع وقبل أن تحصل على الشهادة حصلت على العريس تلك المرأة التي أكلها الفقر لتهضمه هي. (عبير) لم تغير يوماً تسريحة شعرها ولا بنطالها (الجينز الأزرق) من يومها فهمت بأن هدوء الوجه كالهدوء قبل العاصفة كالصفار في الوجه يغطيه ارتخاء واختناق لكنه يخفي في الدم الموت وآكلات البشر الصغيرة.
تلك نظرتي للنساء انطفأت من (عبير) لأشتعل بك. ابتسامتك، نعومتك، شعرك القصير.. هدوءك كل شيء جميل فيك يذكرني بها.
حاولت أن أخفي ولعي بك كما يفعل الطفل حين يسرق أو يخبئ في جيبه الصغير قطعة سكر نسيت بأن جمال الأنثى بكبريائها، وأن الرجل الشرقي مهما تمدّن يبقى ويجب أن يبقى الذكر القط الراكض من فوق الأسوار وراء المرأة آدم نفسه مشى خطوتين وراء حواء، فلم كسرت قوانين الطبيعة وأخذت تمشين كالثملة تحت زخات المطر تبتلين وأنت تبحثين عن هدية تليق بطبيب. نسيت نفسك لأذكر نفسي.
مشيت وراء صوتي المتعب، صوتي المبحوح مثل أصوات كل الرجال، والمريول الأبيض يلبسه الجزار والحلاق والطباخ وآلاف الرجال.
أواه يا عزيزتي، الأسى لا ينتسى. حين ذهبت في غيبوبة، وصعدت رائحة العرق من الممرضات والأطباء المتحلقين حول سريرك كي يجعلوك تتنهدين أو أن يعيدوا لك ضربات قلبك. لم تقدر العيون كلها أن تحبس دمعها عليك. فكرنا كيف نخبر أهلك وانتظرنا أن يبرد جسدك الممد كتمثال من العاج. إذكر كيف اتهمني الجميع بحبك حين احمر وجهي وارتجفت أناملي وأنا أصرخ بهم أن يبتعدوا لأسهر قربك على السرير حتى الصباح وأنجح في اقتناص وريدك الضامر. شهقت واغترفت من عينيك نظرات العسل من ذلك اليوم تسرّع نبضك ليستفيق دمي.
قلت لي:
-أفديك بروحي.