آيات فرض الصوم في القرآن:
عندما أرسل الله تعالى رسوله r بالرسالة كان له حكمة في الفرائض التي فرضها على الأمة. الصوم بدأ في السنة الثانية بعد الهجرة ولله تعالى في ذلك حكمة بالغة. ونسأل لماذا لم يُفرض الصيام مع بدء البعثة؟ والجواب لأن الناس لم يكونوا يستطيعون القيلم بالصيام على مُراد الله تعالى فينا.
الرسول r عندما يشرح أركان الإسلام يقول متفرّداً " بُني الاسلام على خمس شهادة إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاء وحج البيت وصوم رمضان" ولهذا الترتيب حكمة وهذا الحديث يختلف عن حديث الأعمال الذي فيه قدّم صوم رمضان على حج البيت لأن الأركان شيء والأعمال شيء. فمن أراد أن يكون مسلماً حقّاً عليه إقامة الأركان كما يفعل المهندس عندما يريد أن يبني بناءً ما فهو يعمل الأساسات بما يتناسب مع ارتفاع البنيان.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) وهذا النداء للمؤمنين والرسول r يقول بُني الاسلام على خمس فهل الصيام للمسلمين أو للمؤمنين؟
النداء يـ(يا أيها الذين آمنوا) تخفيف إلهي كأني بالله تعالى يقول يا من آمنتم بي والمؤمن مُحبّ تقبّلوا هذه الفريضة من الله تعالى. والنداء يـ (يا أيها) نودي بها الرسول r وكل من أحبّه الرسول فلم يأت النداء في القرآن بـ (يا محمد) وإنما جاء النداء في القرآن بـ يا أيها النبي ويا أيها الرسول. فعندما ينادينا تعالى (يا أيها الذين آمنوا) تعني حُبّاً من المنادي سبحانه وتعالى. وعادة كلما تنادي نداء فيه تكليف تخفف النداء كما جاء على لسان سيدنا لقمان وهو يعظ ابنه فقال (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان) وكذلك في قصة ابراهيم u مع ولده اسماعيل (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) الصافات) وهكذا يعلّمنا الله تعالى أنه إذا أردت التكليف خفف بالنداء ونادي نداء المُحِبّ. والمؤمنون لهم توصيف عند الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) المؤمنون).
وصيام شهر رمضان لم تكلّف به الأمة بداية وإنما كُلّفت بصيام أيام معدودات أولاً (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) البقرة) وكأن الله تعالى يعلّمنا أن أمة محمد r ليست بِدعاً من الأمم بالصوم فالأمم كلها صامت لكن أمة محمد تؤديه على أعلى مستوى.
وقوله تعالى (لعلّكم تتقون) كلمة لعلّ تفيد التمني لكن بالنسبة لله تعالى لا تكون كذلك لأن أنر الله تعالى لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون لكن الله تعالى يريدنا أن نخرج من هذا الصيام على التقوى وهذه غاية فرض الصيام. ولهذا علينا أن نراجع حساباتنا من قبل رمضان حتى نخرج من هذا الشهر على نمط مختلف عما كنا عليه قبل رمضان. ولقد أخذنا الصلاة والحج عن الرسول r كما علّمنا "صلّوا كما رأيتموني أصلي" و" خذوا عني مناسككم" لكنه في الصيام لم يقل صوموا كما رأيتموني أصوم وهذا لأن الله تعالى وضع الصيام لنفسه رقيباً على كل مسلم فلا أحد يقلّد أحداً فيه (كل عما ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) والله تعالى يعلم صيام كل واحد فينا لأن الصيام عبادة سرّية لم تُفعل لغير الله كما حصل في سائر العبادات الأخرى: فالشهادة أشرك بعض الناس مع الله آلهة أخرى، والصلاة البعض كانوا يصلون لغير الله من أصنام وغيرها والزكاة كانوا يدفعون الصدقات لغير الله وكذلك الحج كانوا يحجون للأصنام التي في الكعبة وحولها. أما الصوم فلم يصم أحداً لأجل أحد او إرضاء لأحد فصدق الله تعالى في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فهذه هي العبادة الوحيدة التي لم يفعلها أحد لغير الله والله تعالى سيجزي عليها حتى أن الملائكة الكتبة (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) الانفطار) الذين يكتبون للإنسان كل شيء لا يكتبون الصوم لأن الله تعالى استأثر به فهو وحده سبحانه يعلم حقيقته ويعلم حقيقة الانسان الصائم مصداقاً لقوله تعالى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) غافر).
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة) والشاهد في الآية أن القرآن هدى للناس ولقد قال تعالى في أوائل سورة البقرة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) الكتاب هدى للمتقين فكأن القرآن في أول الأمر كان هدى للناس ثم لمّا رفضه بعض الناس أصبح كتاباً وأصبح هدى للمتقين. فالذي يستفيد من الكتاب هم المتقون والصيام هو الذي يجعلنا من المتقين (لعلكم تتقون). إذن الصيام هو الذي يؤدي للتقوى (لعلكم تتقون) والتقوى تُعين على تقبّل الكتاب (هدى للمتقين).