للكاتب : عزت السيد
العولمة هي الظَّاهرة التَّاريخيَّة لنهاية القرن العشرين أَو لبداية القرن الواحد والعشرين، مثلما كانت القوميَّة في الاقتصاد والسِّياسة الثَّقافة هيالظَّاهرة لنهاية القرن التَّاسع عشر وبداية القرن العشرين.
جورج طرابيشي
فرقٌ كبيرٌ بين أَن يحار المرءُ في كيفيَّة الوصول إلى مدخلٍ لكلامه عن مشكلةٍ أَو أَمرٍ ما، وبين أَن يكون منبعُ الحيرة كثرةُ المداخل. وموضوع العولمة أَحد هذه الموضوعات الَّتي تثيرُ في النَّفس هذا النَّوعَ الأَخير من الحيرة؛ حيرة المداخل الكثيرة الَّتي يفرضُ كلٌّ منها إيقاعه وأَهمِّـيَّته؛ فهل نبدأُ من مدى مصداقيَّة هذا الاصطلاح ؟ أَم من ضرورة ظهوره ؟ أَم من مبرِّراته ودواعيه، ومن ثمَّ هل العولمة عَرَضٌ أَم جوهرٌ أَم ظاهرة ؟ أَم ترانا نستهلُّ بجذوره، وهي بحدِّ ذاتها إشكاليَّةٌ قد تستعصي على الحلِّ لشديدِ تباينُ وجهات النَّظر فيها، وانشعاب الآراء المفسِّرة لذلك
سنتركُ ذلك كلَّه ونبدأُ بالدَّلالة اللغويَّة بوصف اللغة مفتاح الفهم على عمومه، والرََّصيد الدَّلاليَّ لأَيِّ مفردةٍ؛ أَكانت اصطلاحاً أَم مفهوماً، ومهما كان الميدان الَّذي تدور في فلكه. فما العولمة ؟
العولمة، لغةً، ومثلها القوننة والرَّودنة() والحوقلة() والقوقعة والهوجلةُ()، على وزن فوعلة؛ من المصادر() القياسيَّة في اللغة العربيَّة، وبالتَّالي فهي مصطلحٌ سليمٌ من النَّحت والتَّركيب. والمصادر في اللغة العربيَّة، وفي كثيرٍ من اللغات غيرها، تختصُّ دون سواها من المفردات باتِّساع اتِّجاهاتها الدَّلاليَّة من حيث إمكان اتِّجاهها أَكثر من وجهةٍ، وربَّما في الآن أَو السِّياق المستخدمِ ذاته؛ فهي قد تنوب مناب الفعل فيكون معناها أَداء الفعل الَّذي مادَّتُهُ الجذر اللغويُّ الَّذي هو العالم هنا. وبذلك يكون معنى العولمة: جعل الشَّيء مادَّةِ العولمةِ عالميًّا أَو على مستوى العالم. وقد يكون المصدر مفعولاً مطلقاً فيكون بذلك مؤكِّداً لفعله ...والمصدر في الأَصل: اسمٌ دالٌّ على حَدَثٍ جارٍ على فعله
وأَيـًّا كان الأَمرُ فإنَّ الدَّلالة اللغويَّة للعولمة لن تنأى عن كون الجذر والمصدر منه، وهي الإشارةُ إلى إسباغ صفة العالميَّة على موضوعٍ ما هو موضوع فعل العولمة. وبهذا المعنى تماماً قدَّمتها موسوعة الإدارة والأَعمال على أَنَّها «عمليَّة زيادة الالتحام في الحضارة العالميَّة»(). ولذلك عينه تعدَّدت الأَلفاظ الدَّالَّة على العولمة أَو الحالـَّة محلَّها مثل: الكوننة، والكونيَّة، والعالم القريَّة
....
والعولمة، بوصفها اصطلاحاً، لصيقةُ النَّشأةِ بالجانب أَو النَّشاط الاقتصاديِّ، بل لقد «استخدمَ هذا المصطلحُ أَساساً لوصف بعض الأَوجه الرَّئيسة للتَّحوُّل الحديث في النَّشاط الاقتصادي العالمي»(). وجلُّ الَّذين تحدَّثوا فيها لم يكونوا ليجدوا لها ميداناً آخر غير هذا الميدان. ولكنَّ هذا الاصطلاح، كمعظم غيره من الاصطلاحات يولدُ رخواً، هشَّ البنية، ليس له إلاَّ مهده، حتَّى إذا شبَّ ونما كَبُرَ على مهده وقرع كثيراً من الأَبواب، ودخل كثيراً من السَّاحات
انطلاقاً من ذلك لا عجب في أَلاَّ يبتعد الاقتصاد عن مجمل تعريفات العولمة، فهي تشمل عند الجابري «مجال المال والتَّسويق والاتِّصال، كما أَنَّها من إفرازات المعلوماتيَّة»(). ويقدِّمها مصطفى حمدي على أَنَّها «حرُّيـَّةُ حركة السِّلع والخدمات والأَيدي العاملة ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الوطنيَّة والإقليميَّة»(). حتَّى ألفين توفلر ـ
Alvin Toffler
]الَّذي انفرد بمصلح خاصٍّ به للدَّلالة على العولمة هو: الموجة الثَّالثة فإنَّه جعل من أَهمَّ سمات هذه الموجة « المعرفة الَّتي تعمل على توفير الوقت والمكان؛ سواء في أَماكن التَّخزين أَو وسائل النَّقل، وفي سرعة التَّوزيع، والاتِّصال بين المنتج والمستهلك»(). وموسوعة الإدارة والأَعمال الَّتي عرَّفتها بأَنَّها «عمليَّة زيادة الالتحام في الحضارة العالميَّة» لم تجد تفسيراً لهذا الالتحام إلاَّ في زيادة الاعتماد الاقتصاديِّ المتبادل بين الدُّول واضمحلال دور المركزيَّة الاقتصاديَّة[
ولكنَّ حرِّيـَّة الحركة الاقتصاديَّة هذه ليست بالأَمر الجديد أَو المستحدث فهي محور أَهداف منظَّمة التِّجارة العالميَّة الموسومة بـ الجات ـ
GATT
وهي بدورها «مرتبطةٌ بوثيق الصِّلات وأَوشجها مع الجذر الفلسفي للمدرستين: التِّجاريَّةـ؛ الَّتي ظهرت مع بداية القرن الخامس عشر، واهتمَّت بكيفيِّة رفع الفائض في الميزان التِّجاريِّ. والطَّبيعيَّة ـ؛ الَّتي ظهرت في فرنسا في منتصف القرن الثَّامن عشر، وأَكَّدت على ترك النَّشاط الاقتصاديِّ حرًّا من كلِّ قيد وتدخُّل»(). على أَنَّه لا يمكننا إغفال أَنَّه «عندما باشرت الجات عملها فإنَّها جعلت البيئة التَّجاريَّة أَكثر انفتاحاً()؛ لقد أَحدثت ثورةً في أُجور الشَّحن من خلال الحاويات ـ
Containers
]، والتِّقنيات الجديدة الَّتي جعلت الاقتصاديَّات ممكنة على قواعد جغرافيَّة أَكثر اتِّساعاً»(). ولذلك كان من الحقِّ بمكان أَنَّ «موجة الحماية إلى جانب الحربين العالميتين وبطئ النَّقل البحري والاتِّصالات سبباً في تأخير بدء موجة العولمة إلى السِّتينات
الحقُّ أَنَّ حرِّيـَّة الحركة الاقتصاديَّة؛ الرَّساميل والسِّلع والعمالة … ليست هي كلُّ المبتغى الَّذي تشرئب إليه العولمة()، ولذلك ذهب سمير أَمين في مطلع كتابه: ((إمبراطوريَّة الفوضى)) إلى أَنَّ العولمة مجرَّد تكثيفٍ للعلاقات الرَّأسماليَّة، إذ إنَّها «اجتازت عتبةً جديدةً، خلال السَّنوات الأَربعين المنصرمة، بكثافة المبادلات والمواصلات المتنوِّعة وبالقدرة الشَّاملة لوسائل التَّدمير»(). ولكنَّه تكثيفٌ نوعيٌّ يضعُ أَمامه وفي اعتباره أَنَّ النُّظم الاقتصاديَّة التَّقليديَّة؛ نظم الإنتاج والتَّسويق والتَّوظيف ... لم تعد تفي بغرض المرحلة القادمة، وانطلاقاً من هذا المعنى يذهب إلى أنَّه «يتوالد اليوم عهدٌ جديدٌ هو عهد السُّوق ـ
Market
الذي سيغدو محاولة جديدة لتوحيد العالم؛ أي العولمة»(). ومن هنا كان تعريف صادق جلال العظم للعولمة بأَنَّها « إعادةُ صياغة مجتمع الأَطراف وتشكيلها على صيغة المركز؛ بمعنى نقل الثِّقل من المركز إلى جميع الأَطراف في مسألة التَّبادل والتَّوزيع»(). ومن هذه الوجهة يصحُّ قول جورج طرابيشي بأَنَّ العولمة هي « الظَّاهرة التَّاريخيَّة لنهاية القرن العشرين أَو لبداية القرن الواحد والعشرين، مثلما كانت القوميَّة في الاقتصاد والسِّياسة الثَّقافة هي الظَّاهرة لنهاية القرن التَّاسع عشر وبداية القرن العشرين»(). وبهذا المعنى تقريباً ذهب علي حرب إلى أنَّ العولمة: «ليست شيئاً بسيطاً يمكن تعيينه ووصفه بدقَّة، بقدر ما هي جملة عمليَّات تاريخيَّة متداخلة تتجسَّد في تحريك المعلومات والأفكار والأموال والأشياء، وحتَّى الأشخاص، بصورة لا سابق لها من السُّهولة والآنيَّة والشُّموليَّة والدَّيمومة. إنَّها قفزة حضاريَّة تتمثَّلُ في تعميم التَّبادلات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، على نحوٍ يجعل العالم سوقاً للتَّبادل أو مجالاً للتَّداول أو أفقاً للتواصل»(). وليرى من ثم ـ من خلال هذا المعنى للعولمة ـ أنَّنا «نجد أنفسنا اليوم إزاء حدث كونيٍّ ندخل معه في العصر الكوكبيِّ بآفاقه ومجالاته، بثوراته وتحولاته. وهذا العصر تختصره أربعة عناوين كبرى لفتوحات وابتكارات وقدرات وتكتُّلات تؤثِّر في حياة البشر وتهيمن على مقدَّراتهم ومصائرهم هي: الاقتصاد الإلكتروني، والمجتمع الإعلامي، والمجال التلفزيوني أو البصري، والفضاء السبراني الذي يعني القدرة على السَّمع والرُّؤية و اللمس والمراقبة والتَّحكُّم من على بُعد»(). وبهذا المعنى الأخير كان قد ذهب برهان غليون إلى أنَّ العولمة «حركيَّة ـ
]Dynamics[/size]
جديدة تبرز داخل دائرة العلاقات الدُّوليَّة من خلال تحقيق درجة عالية من الكثافة والسُّرعة في عمليَّة انتشار المعلومات والمكتسبات التِّقنيَّة والعلميَّة للحضارة
وبهذا المعنى نستطيع الآن فهم توجُّهات كينشي أُوماي ـ Kenichi Ohmaeرئيس ماك كينـزي ـ]Mc
Kinsey
]في طوكيو المسمَّى في الغرب بنبيِّ العولمة الَّذي أَلَّف كتاب «ثالوث القوَّة» عام 1985م وبيَّن فيه أَنَّه يجبُ على الشِّركات «أَن تبتني وجودها في مناطق التِّجارة الرَّئيسة في العالم وهي: أوربا وشمال أَمريكا واليابان، والمجازفة هي أَن تسير الشَّركات عكس هذا التِّـيَّار»(). ويعود في عام 1990م ليؤكِّد نظريَّته هذه في كتابه «عالم بلا حدود ـ
Borderless World
ويقدِّم أنموذجاً حيًّا كمفتاحٍ لرسالته «من خلال النَّجاح العالمي الياباني لشركة هوندا ـ
Honda[/
الَّتي عاملت كلَّ زبائنها؛ سواء وراء البحار أو المحلِّيين بالأَهميَّة نفسها، والفعاليَّة ذاتها