وعلى هذا الأَساس عدَّت موسوعة الإدارة والأَعمال أَنَّ تعريف العولمة «تجسيدٌ للمدى الَّذي تابعته على مدار عدَّة عقود»(). بينما ذهب سمير أمين إلى أنَّ هذه «الحالة الجديدة هي بداية مرحلة تاريخيَّة انطلقت خلال الأعوام 1989 ـ 1991م من خلال الإخفاق التَّام المزدوج لطموحات أنظمة [الشَّرق وبلدانه] المسماة بالاشتراكيَّة ، وأنظمة [الجنوب وبلدانه] المسمَّاة بالاستقلاليَّة الوطنيَّة، مختتمة عهد الحياد الإيجابي الذي عاش ثلاثين عاماً، أي جيلاً كاملاً، للفترة 1955 ـ 1985م. ويتوالد اليوم عهدٌ جديدٌ هو عهد السُّوق ـ
Market
الذي سيغدو محاولة جديدة لتوحيد العالم»،() وهذا ما يلزم عنه بشكل منطقي معطيات ومفاهيم جديدة، ولم يغب هذا عن ذهن سمير أمين فهو يؤكِّد أنَّ المرحلة القادمة ستشهد «ولادة مفاهيم ومضامين وأفكار وأنساق جديدة على حساب انتهاء وانتفاء ظواهر وحالات ومضامين ومصطلحات ومفاهيم عدَّة، مثل: "شرق ـ غرب"، "شمال ـ جنوب"، "العالم الثالث"، "الشِّيوعيَّة"، "البلدان الاشتراكيَّة"، "الحياد الإيجابي"، "عدم الانحياز"، "التَّأميم
إلخ، وسيمضي زمنٌ ليس بطويلٍ تعيش فيه مفاهيم القرن العشرين في حالة اغتراب حقيقي، أو سيقضى عليها نهائيًّا، لتصبح تاريخاً [عقائدياً] عفا عليه الزَّمن، إذ ستنبثق مفاهيم ومصطلحات ومضامين جديدة تتخذ لها صوراً وأشكالاً مختلفة، كونها ستعبِّر عن واقع سياسي / أو [عقائدي] مختلف، وربَّما لا تحكم الأطراف ـ كالعادة ـ التَّعبير عنه، بل ستعتمد [بوصفها] مكوِّنات أطراف لمركز استقطاب النِّظام الدُّولي، أي العولمة الجديدة»(). أمَّا برهان غليون فقد رأى « أَنَّ هذه الظَّاهرة هي التَّطوُّر الطَّبيعيُّ للحضارة منذ أَقدم الحقب التَّاريخيَّة، حيث انتقلت تقنيَّات الثَّورة التِّقنيَّة الأُولى المسمَّاة بالعصر الحجري، ثمَّ التِّقنيَّات المرتبطة بالعصر الحديدي ... فالزِّراعي والَّتي بدأَت (منذ) عدَّة آلاف السَّنوات قبل الميلاد ... وهكذا. أَي يضعُ غليون هذه الظَّاهرة ضمن سياقها التَّاريخي، ولكنَّ ما يميِّزُها الآن هو
ـ كثافة المبادلات بين البلدان والمناطق.ـ سرعة الانتشار.ـ قطاع التَّمويل والعمليَّات الماليَّة، وكذلك الأَسواق.ـ العمليَّات المعلوماتيَّة والثَّقافيَّة
فالعولمة إذن هي التَّعبير المعاصر عن سلوك الأَقوى، عن هيمنته وفرضه نفوذه على الأَطراف الأُخرى من أَجل تحقيق مصالحه وضمان استمرار سطوته ونفوذه. ولأَنَّ منطق العصر يفترض نوعاً من اللباقة في التَّخاطب الدُّولي، وأَن يتضمَّنُ أَلفاظاً أَنيقة تنمُّ عن احترام الإنسان في خضمِّ أَعاصير خطابات الحريَّة والدِّيمقراطيَّة وحقوق الشُّعوب في تقرير مصائرها، أَصبح من الضَّرورة المُلّحفة بمكان أَن تخفَّ حدَّة نظرات التَّهديد والوعيد، وأَن تضمحلَّ نبرة المدافع وتتلاشى. وبهذا المعنى جاءت العولمة اسماً لمرحلة «مابعد الاستعمار، وتوحيد الاستهلاك»() كما يرى محمد عابد الجابري. وعَدَّها صادق جلال العظم «حقبة التَّحوُّل العميق لدول العالم الرَّأسماليَّة في مرحلة النِّظام العالميِّ الجديد»(). بل إنَّ كينشي أُوماي ـ
K. Ohmae
يعتقد أَنَّ «المسألة على الأَغلب هي مسألة بقاء، لأَنَّ التَّنافس يزاد عالميًّا في معظم مناطق التِّجارة والعمل، ويمكن للزَّبائن أَن يختاروا المنتجات والخدمات من عدَّة مصادر
ونظراً لتعقُّد العلاقات وتشابكها في المرحلة الرَّاهنة، ونظراً للظُّروف والشُّروط والمعطيات المرافقة؛ العلميَّة والإعلاميَّة …فقد أَوجد سمير أَمين لنفسه من المبرِّرات ما خوَّله وصف العولمة بأَنَّها إمبراطوريَّة الفوضى، ورأَى في الصَّفحة الأُولى من كتابه الَّذي يحمل العنوان ذاته أَنَّ: «تكثيفٍ العلاقات الرَّأسماليَّة، وانتشار أَسلحة الدَّمار الشَّامل هما الصِّفتان الجوهريَّتان للعولمة
ولكنَّ الغريب الذي يدعو إلى التَّوقُّف عنده هنا أنَّ كلَّ العصور سمِّيت ودرست بعد انتهائها؛ العصر الحجري، العصر الحديدي، عصر النَّهضة، عصر التَّنوير، عصر التَّحليل… أمَّا عصر العولمة فقد حمل اسمه قبل بدئه، والدِّراسات والتَّنظيرات التي سبقته قد لا تقل عمَّا كتب عن أي عصرٍ من العصور من بعد انتهائه وحتَّى الآن. أليس في ذلك ما يسترعي التَّوقُّف عنده أوَّلاً، ويثير الكثير من التّساؤلات ثانياً ؟
والأكثر غرابة، بل إدهاشاً هو أنَّ العولمة وضعتنا أمام مشكلة حقيقيَّة، بما أثارته أو فضحته سيَّان، وتكمن هذه المشكلة في انقلاب الفكر على ذاته والمفكِّر على فكره بشكلٍ لا نزعم أنَّه مفاجئٌ زمانيًّا، ولكنَّه مثير للدَّهشة من النَّاحية المنطقيَّة، وإن كان كلُّ ذلك الابن غير الشَّرعيَّ للتَّغيُّرات الشَّرعيَّة، وحتَّى غير الشَّرعيَّة، التي هزَّت العالم منذ مطالع العقد الأخير من القرن العشرين، أو ما سمَّيناه «عصر الزَّلازل السِّياسيَّة»()، «فالمناضلون الذين قضوا أعمارهم الطَّويلة في النِّضال من أجل تغيير واقع المجتمعات والعقليَّات يقفون الآن بفكرهم الأحادي وعقولهم المغلقة ضدَّ المتغيِّرات بقدر ما تصدمهم الإنجازات والتَّحوُّلات. والثَّوريُّون الذين سعوا إلى تفكيك الدُّول بوصفها مؤسَّسات بيروقراطيَّة تحتكر الشَّأن العام والحقَّ العام، وتقوم بتطبيع الأفراد وتطويع الجماعات، بل تدمير الكائنات، على ما كانوا يقولون، يتباكون اليوم على الدَّولة ويطالبون بحمايتها من قوى العولمة المنتهكة لحقوق الدُّول وسيادتها. والأمميون الذين رموا القوميَّات بتهم التَّعصب والعنصريَّة الفاشيَّة، وحمَّلوها وزر الحروب العالميَّة الطَّاحنة، يخشون الآن عليها من الضَّعف والتَّفتُّت بسبب عمليَّات العولمة التي تكسر النَّرجسيَّة الثَّقافيَّة بقدر ما تفتح آفاقاً جديدة للتَّواصل بين البشر. والوحديون الذين أنتجوا التَّمزُّق والفرقة، بأطيافهم الوحدويَّة، يلعنون السُّوق التي تخلق أمام العمل الوحدوي فرصاً تقضي عليها العقائد والأدلوجات. واليساريُّون الذين كانوا من قبل ضدَّ العالميَّة بوصفها شكلاً من أشكال الهيمنة تمارسها الدُّول الصِّناعيَّة المتقدِّمة على بقيَّة الدُّول والأمم، يطالبون اليوم بتدمير العولمة لمصلحة العالميَّة
الحقُّ أنَّ هذا الذي سمَّيناه ابنا غير شرعيٍّ لجملة التَّغيرات الشَّرعيَّة، أو حتَّى غير الشَّرعيَّة التي عصفت بالعالم منذ سنين هو النَّتيجة الحتميَّة للانقلابات السِّياسيَّة العنيفة والعسكريَّة التي زلزلت العقول ولكنَّها انقلابات نوعيَّة غير متوقَّعة في المنظومات الفكريَّة والعقائديَّة؛ الفرديَّة والجمعيَّة، وهي لا تعدو في حقيقة الأمر ردود الأفعال اللاشعوريَّة التي تقود إليها آليَّات النَّفس الدِّفاعيَّة الرامية إلى التَّخلص من إثم الإخفاق وما يخلِّفه في النَّفس من عقد نقصٍ وقصور، ولذلك انعكست هذه النَّتائج على الواقع الرَّاهن بغضِّ النَّظر عمَّا انطوى عليه هذا الواقع سيَّان تمثَّل بالعولمة أم بغيرها، ولا أعتقد أنَّ هذه النَّتيجة ستتغيَّر أبداً فيما لو كان هذا الواقع غير واقع العولمة. والدَّليل على ذلك ما سبق وفصَّلناه في هذا الفصل من أنَّ العولمة غير جديدة، بمعنى من المعاني، إلا في الاسم من جهة وخصوصيَّات المرحلة الحضاريَّة الرَّاهنة من جهة ثانية.