ترجع الفاعليَّةُ الحقيقيَّة في العمليَّة الإنتاجيَّة بجملتها إلى المنتِج وحده لأَنَّ فاعليَّة المستهلك لا تتعدَّى الاستهلاك، ولكنَّه يظلُّ العنصر المحور في هذه العمليَّة من حيث تنافس المنتجين … وفي فلك هذا الإطار كانت تتصاعد وتائر العمليَّة الإنتاجيَّة وتولد نظريَّاتها، وآخر هذه الرُّؤى وتطبيقاتها هي العولمة التي تدَّعي الانتقال من حرب الاقتصاد إلى الاقتصاد الشَّامل].
نعم، العولمة بنت الاقتصاد بصورة مباشرة، ولكنَّها أُمُّه في الوقت ذاته. أَليس هذا مفارقة صارخة؟ بلى، ولكنَّ حلَّها بسيط.
إنَّ أَهمَّ فكرةٍ جاء بها كارل ماركس ـ ]K. Marx، ولم تكن من اختراع قريحته، فقد سبقه إليها كثيرٌ من سابقيه من الاقتصاديين، هي تركيزه على أهمِّيـَّة الاقتصاد في السَّيرورة التَّاريخيَّة حتَّى صار الاقتصاد، على مبالغته في ذلك، هو المحرِّك الأَساسُ للحضارة والتَّاريخ عبر صراع الطَّبقات والشُّروط الماديَّة المرافقة()، أَو بمعنى آخر تنازع أصحاب رؤوس الأَموال وصراعهم.
لقد برز دور العامل الاقتصادي مع الإقطاعيات الأوربيَّة المتحوِّلة بتأثير الفعل الاقتصادي إلى برجوازيَّات تنامت شيئاً فشيئاً حتَّى ضاقت بها الحدود المحليَّة فصارت تتواثب على أَسوار الحدود ليولد الاستعمار وتولد الرَّأسماليَّة التي تغيَّرت طبائعها بدورها أيضاً من رأسماليَّات محليَّة إلى رأسماليَّات عابرةٍ للقوميَّات، وهذه الرَّأسماليَّات أَو الشَّركات العابرة للقوميَّات هي ذاتها نواة العولمة بالمعنى الاصطلاحيِّ المعاصر، إذ لم يعد للاستعمار بالمعنى التَّقليديِّ مكانٌ أَو دورٌ في واقع أَو عالم مفعمٍ بالرُّوح الثَّوريَّة والحركات التَّحرريَّة والتَّقدميَّة فنشأ نوعٌ جديدٌ من التَّفكير يبحث عن إيقاعاتٍ جديدة لا للسَّيطرة على الشُّعوب الأُخرى بالمعنى الضَّيـِّق وإنَّما لوضع اليد على موارد شرايين الحياة؛ حياة المستعمِرين ليؤمِّنوا ذاتهم أَوَّلاً، وحياة المستعمَرين ليظلُّوا تحت اليد والنَّظر ثانياً. وهذا ما عبَّر عنه روي كالن ـ Roy Calneبلفظه المهذَّب اللطيف إذ قال: «لم تعد عمليَّات غزو الأُمم الأُخرى تسليةً محبوبةً بين أَكثر الدُّول قوَّةً وثراءً، حيث استُبدِل هذا الغزو بشكلٍ جديدٍ من أَشكال السَّيطرة؛ من خلال القوَّة الاقتصاديَّة»(). وفي البحث عن أُطر مناسبة لهذه السَّيطرة الاقتصاديَّة بعيداً عن الاستعمار المباشر ولدت الشَّركات عابرة القوميَّة، وولدت منها العولمة، على الرُّغم ممَّا يحاوله الكثيرون لإقناعنا بحسن نوايا العولمة متمثِّلةً بأعلامها
قد تكون نقطة بداية دائرة العمليَّة الإنتاجيَّة مسألة خلافيَّةً يختصم فيها المنظِّرون، ولكنَّها في حقيقة الأَمر غير معقَّدة فأَنَّى وضعت إصبعك على منحني دائرة الدَّورة الإنتاجيَّة أَمكنك عدَّها نقطة البداية التي قد تكون المستهلك أَو المنتِج أَو المنتَج أَو المادَّة الخام … ولكنَّ الذي يستحقُّ الإشارة إليه هنا أَنَّ النقطة المرادة بدايةً لهذه الدَّورة مرتبطةٌ بالخلفيَّة العقائديَّة لمن يختارها حتَّى وإن كانت ذاتها
بغضِّ النَّظر عن حسن النَّوايا أَو سوءها فإنَّ المنطق يقول: إنَّ غاية المنتِج هي تحقيق الرِّبح أَو أَكبر قدرٍ من الرِّبح، سيَّان كان هذا المنتِجُ فرداً أَو مجموعةً، ولا فرق إن المجموعة قطاعاً عامًّا أَو خاصًّا، لأَنَّ استمرار العمليَّة الإنتاجيَّة متوا شجٌ مع الرَّيعيَّة، ولا يمكن للمنتج أَن يبقى في السُّوق من دون ربح، لأَنَّ هذا الرِّبح ليس محض نتيجة للجشع وإنَّما هو أَيضاً نتيجةٌ للمنافسة وتطوير العمليَّة الإنتاجيَّة برمَّتها بدءًا من مادَّتها الخام وصولاً إلى العلاقة مع المستهلك بمختلف أَبعادها. ولذلك لم يخطئ آدم سميث ـ Adam Smith]عندما ذهب إلى أَنَّ إحدى أَهمِّ المشكلات الاقتصاديَّة هي العلاقة بين المنتج والمستهلك من باب أَنَّه «لو عَلِمَ كلُّ مشترٍ أَسعار البائع، ولو عرف كلُّ بائعٍ المبلغ الَّذي يستطيع أَن يدفعه المشتري للسِّلعة، فإنَّ كلا الطَّرفين سيكون قادراً على اتِّخاذ قرار يستندُ إلى المعلومات الَّتي حصل عليها. ولكن حتَّى الآن ليست للبائعين أَو المشترين معلومات عن بعضهم [بعضاً
إنَّ الفاعليَّة الحقيقيَّة في العمليَّة الإنتاجيَّة بجملتها عائدة إلى المنتِج وحده لأَنَّ فاعليَّة المستهلك لا تتعدَّى الاستهلاك، وعلى الرُّغم من كونه مضطرًّا للاستهلاك شاء أم أَبى فإنَّه يظلُّ العنصر المحور في العمليَّة الإنتاجيَّة من حيث تنافس منتجي السِّلع المتماثلة على إغرائه وكسب رضاه … وفي فلك هذا الإطار كانت تتصاعد وتائر العمليَّة الإنتاجيَّة منذ مطالع النِّصف الثَّاني من القرن العشرين على نحو الخصوص() فنمت شركات وكبرت واستأسدت وتلاشت شركات غيرها واندثرت، وفي أَثناء ذلك كانت تتوالد الرُّؤى للتَّنظير لكلِّ خطوة ومرحلة، وآخر هذه الرُّؤى وتطبيقاتها هي العولمة التي تحاول أو تدَّعي الانتقال من حرب الاقتصاد إلى الاقتصاد الشَّامل1].
إنَّ الاقتصاد الشَّامل هنا لا ينفي الحرب الاقتصاديَّة ولا يحلُّ مكانها لأَنَّ للشُّموليَّة معنى آخر لا علاقة له بالاحتواء بالمعنى السِّياسي، إنَّه الامتداد الأخطبوطي فوق الحدود وبين القوميَّات، ذلك أَنَّ حيويَّة الحركة والنَّقل والانتقال والإنتاج والتَّوزيع تتطلَّب الوجود في كلِّ مكان؛ الوجود الكامل لا الوجود بوساطة المندوبين كما كان سائداً في النُّظم القديمة الَّتي ما زالت منتشرةً حتَّى الآن].
ولكنَّ ذلك لا يتمُّ بهذه السُّهولة واليسر فهو يحتاج إلى إعادة هيكلة الشِّركات ذاتها من جهة وإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي كلَّه، وهو الأَمر الذي بدأته الرَّأسماليَّات الكبرى منذ زمن بعيد يرجع بمعنى من المعاني إلى العهود الاستعماريَّة، وهذا القسم الثَّاني هو ما سنأتي عليه في فصل لاحقٍ يحمل العنوان ذاته.
إذن فقد أَصبح من اللازب الملحف أَن تعيد الشَّركات إعادة هيكلتها التِّقنيَّة ونظمها الإداريَّة والمعلوماتيَّة بما يتوافق مع المرحلة الجديدة حتَّى تستطيع البقاء على أَقلِّ تقدير، وقد وضع آل توفلر جملة من الشُّروط والأُسس الَّتي ينبغي أَن يكون التَّغييرُ على أَساسها وهي
ـ « أَيُّ مؤسَّسةٍ جديدةٍ يجب أَلاَّ تقامَ على غرار المصانع القديمة شكلاً وتنظيماً وإدارةً
ـ يجب أَلاَّ تزيد أَيَّةُ مؤسَّسةٍ من تكتيل المجتمع.