قال الله تعالى: {وخَلقَ الجانَّ من مارجٍ من نار(15)}.
تدلُّ هذه الآية الكريمة دلالة قطعيَّة على وجود الجنِّ كمخلوقات حية ذات منشأ يختلف عن منشأ الإنسان، فإذا كان الإنسان قد خُلق من تراب فإن الجانَّ ـ ببيان الله تعالى ــ قد خُلقوا من مارج من نار. والمارج: هو الشعلة الصاعدة ذات اللهب الصافي الَّذي لا دخان فيه، المختلط الألوان. والمصدر الموثوق الوحيد لبيان خلق الجان هو ما جاء به الوحي من خبر الله الصادق، لأن حقيقة خلقهم خارجة عن حدود العلوم البشرية.
وللجانِّ قدرة على الحياة في هذه الأرض بالمشاركة مع الإنس، ولكننا لا ندري عن نمط معيشتهم شيئاً، وهم مخاطَبون ومعنيُّون بهذا القرآن، الَّذي ورد ذكرهم فيه وفي أكثر من موضع، موضِّحاً جوانبَ من حقيقتهم وبعضاً من صفاتهم، وأهمُّها:
ـ قابليَّتهم للعلم والمعرفة، وحريَّتهم في الاختيار؛ فهم مكلَّفون بالإيمان والعبادة، مَنهِيُّون عن الكفر والعصيان، كالإنس، قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسْلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُوْنَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا...} (6 الأنعام آية 130)، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (51 الذاريات آية 56)؛ فمن آمن من الجنِّ وأسلم فلا خوف عليه وقد تحرَّى رشداً، قال تعالى: {وَأنَّا لَـمَّا سَـمِعْنَا الهُدَى آمَنَّا بِه فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً * وَأَنَّـا مِنَّا المُسْلِمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرُّوا رَشَـداً} (72 الجن آية 13 ـ 14)، ومن كفر منهم وعدل عن طريق الحقِّ، كان مآله إلى جهنَّم، قال تعالى: {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} (72 الجن آية 15).
ـ التَّناسل والتَّوالد، بدليل قوله تعالى: {..أفتتَّخِذونه وذرِّيَّته أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌّ بِئْس للظَّالمين بَدَلاً} (18 الكهف آية 50) والذريَّة تقتضي التناسل، كما أخبر القرآن الكريم أنَّ فيهم رجالاً، ومتى كان فيهم الرجال ففيهم أيضاً النساء، وهذا يقتضي التناسل أيضاً، قال تعالى: {وأنَّه كان رِجالٌ منَ الإنس يعوذون برِجالٍ منَ الجنِّ فزادوهم رَهَقاً} (72 الجن آية 6).
ـ رؤيتهم لنا من حيث لا نراهم، وليس هذا بعجيب، فمن كان بيده منظار رأى الشخص البعيد دون أن يراه ذلك الشخص، وكذلك جهاز التلفاز الَّذي نرى المتحدِّث فيه ولا يرانا، قال تعالى: {..إنَّه يراكُم هوَ وقَبيلُه من حيث لا تَرَونهم إنَّا جعلنا الشَّياطين أولياءَ للَّذين لا يُؤمنون} (7 الأعراف آية 27). ولا شكَّ أن مردَّ ذلك إلى اختلاف في طبيعة التكوين حيث أن أبصارنا عاجزة عن رؤية ما عدا المخلوقات الكثيفة.
ـ قدرتهم على القيام بالأعمال الخارقة، والصناعات البديعة، والأشغال الَّتي يعجز البشر عن القيام بمثلها، كما أن لهم القدرة على التشكُّل بالأشكال الجسمانية الَّتي يمكن أن يراها البشر. فقد أخبر القرآن الكريم أن الله قد طوَّع الجنَّ لنبيِّه سليمان عليه السلام، وسخَّرهم له فشيَّدوا له الأبنية الضخمة، وعملوا له الصناعات الفنية، وجلبوا إليه الأحمال الثقيلة من مسافات بعيدة وبوقت قليل، وغير ذلك من الأعمال الَّتي يعجز البشر عن القيام بها، قال تعالى ممتنّاً على نبيِّه سليمان: {فسخَّرْنا له الرِّيحَ تجري بأمره رُخَاءً حيث أصاب * والشَّياطين كلَّ بنَّاءٍ وغوَّاصٍ} (38 ص آية 36ـ37). وقال أيضاً: {يعملون له ما يشـاءُ من محارِيبَ وتماثيل وجِفانٍ كالجَوَابِ وقُدُورٍ راسـياتٍ...} (34 سـبأ آية 13).
وفي قصَّة جلب عرش بلقيس دليل على قدرتهم على القيام بالأعمال الخارقة، وفي هذا يقول تعالى: {قال عفريتٌ منَ الجنِّ أنا آتيك به قبل أن تقومَ من مَقامك وإنِّي عليه لَقويٌّ أمين} (27 النمل آية 39).
وفي القرآن الكريم سورة كاملة تسمى سورة (الجن)، تُعرض فيها قصَّة نفر من الجن استمعوا إلى تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من آيات كتاب الله، فآمنوا به وهُرِعُوا إلى قومهم مبشِّرين ومنذرين، قال تعالى: {قلْ أُوحِيَ إليَّ أنَّه اسْتَمع نفرٌ منَ الجنِّ فقالوا إنَّا سَمِعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرُّشدِ فآمنَّا به ولن نُشرِك بربِّنا أحداً} (72 الجن الآية 1ـ2). وفي هؤلاء النَّفر نزل أيضاً قوله تعالى:
سورة الأحقاف(46)
{وإذ صَرَفنا إليك نفراً منَ الجنِّ يَسْتمِعون القرآن فلمَّا حَضَرُوه قالوا أَنصِتوا فلمَّا قُضيَ وَلَّوا إلى قومهم منذرين(29) قالوا يا قومنا إنَّا سَمِعنا كتاباً أُنزِل من بعد موسى مُصدِّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيمٍ(30) يا قومنا أَجِيبُوا داعيَ الله وآمنوا به يَغفرْ لكم من ذُنوبكم ويُجِرْكُم من عذابٍ أليم(31) ومن لا يُجبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأَرضِ وليس له من دونهِ أولياءَ أُولئك في ضلالٍ مبينٍ(32)}
/ ومضات:
ـ شاء الله تعالى أن يستمع وفد من الجنِّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو آيات من كتاب الله، فجلسوا منصتين بتفكُّر واعتبار؛ حتَّى أدركوا أهمِّية ما سمعوا، وبدا عليهم التأثُّر الشديد به، فأسرعوا إلى قومهم يخبرونهم بهذا الحدث العظيم، وقصُّوا عليهم أنهم سمعوا قرآنا يوافق ويصدِّق ما أُنزل على موسى، يُشِعُّ بنور الهداية، وتحمل تعاليمه البُنَى الأساسية للطريق الموصل إلى الحق والسعادة.
ـ دعوة هؤلاء النَّفر أقوامهم وترغيبهم بالاستجابة لهذه الدعوة المباركة تعتبر دليلاً عملياً على شدة تأثرهم. لقد آثروا الإيمان بها تصديقاً وعملاً، لينالوا المغفرة، ويُثابوا بالأمن من عذاب الله. كما أنذروا أقوامهم بأنَّ من يُعرِض أو يتخلَّف عن الاستجابة لنداء الله، فإنه لن يجد قوَّة تحميه وتنجيه منه، وليس له من وليٍّ ولا نصير، وهو في متاهات الضياع مشرَّد محزون.
/ في رحاب الآيات:
يؤمن المسلمون بوجود مخلوقات غير مرئيَّة تعيش في الكوكب الأرضي يُسَمَّوْن بالجنِّ، وهم يعيشون من حولنا دون أن يملكوا القدرة على التصرُّف أو التدخُّل في أمورنا. وبعض هؤلاء الجن يؤمنون بالله وبالرِّسالات السماوية، أمَّا بعضهم الآخر فكافرون قد جنَّدوا أنفسهم أعواناً لإبليس. وقد قدِّر لجماعة من الجن أن يستمعوا القرآن يُتلى من فم الرسول عليه السلام، فكان هذا تدبيراً من الله تعالى وليس مصادفة عابرة، ليعلموا بنبأ تلك الرِّسالة فيؤمنوا بها وينجوا بذلك من النار المعدَّة لشياطين الجنِّ والإنس.
والنصُّ القرآني السابق ينقل لنا صورة هؤلاء النَّفر وهم يستمعون القرآن، ويبيِّن ما وقع في رَوْعهم من التأثُّر والرَّهبة والخشوع بعد سماعه، فعندما حضروه قالوا: {أنصتوا}، ومن البدهي أنه لا يمكن لأحد أن يعي ما يستمع إليه، ما لم ينصت بإمعان وتدبُّر ورويَّة، فكيف بكتاب الله؟ وحالما أنصتوا إليه آمنوا، وبمجرَّد إيمانهم هُرِعُوا إلى قومهم منذرين ومعلِّمين ناصحين، وهذا حال المؤمن الصادق في سرعة التبليغ. وفي هذا تعزية للرسول عليه السلام على ما لقيه في ذلك الحين من صدود أهل الطائف وإعراضهم عن دعوته وإيذائهم له، وإعلام له بأن الله لا يخذل رسله، فإن أعرض المعرضون عن كتابه وعن نبيِّه استكباراً وحسداً، أو بغياً وجهلاً، فإن السُّعداء الموفَّقين يستجيبون حُبّاً وتصديقاً، وإيماناً ومعرفة.
ولعل هذا ما يفسِّر استجابة الكثير من الغربيين وغيرهم للإسلام في عصرنا الحالي. فما كان إقبالهم على هذا الدِّين وإيمانهم به إلا نتيجة قراءتهم للقرآن الكريم قراءة التَّمعن والتبصُّر، والدراسة الكلِّية الجادة؛ فكانت سبباً في اختراق النور الإلهي إلى أعماق قلوبهم، فاهتدوا بهدي الله وآمنوا برسالة نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم .
ثمَّ وَلَّى الجنُّ إلى قومهم مسرعين بعد أن أدركوا الصِّلة بين التَّوراة والقرآن بمجرَّد سماعهم لبعض آياتٍ منه، ربَّما لم يكن فيها ذكر لموسى عليه السلام أو لكتابه، إلا أنَّ طبيعتها توحي بأنها تصدر من النَّبع ذاته الَّذي فاض منه كتاب موسى. وشهادة هؤلاء الجن ذات دلالة واضحة على صدق إيمانهم، فقد قالوا لقومهم: ياقومنا! إنا سمعنا كتاباً أنزله الله بعد توراة موسى، يصدِّق ما قبله من كتب الله الَّتي أنزلها على رسله، ويرشد إلى سبيل الحق السوي، وإلى رضا الله تعالى.
لقد عرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يُتَوَّجان بغفران الذَّنْب والنَّجاة من العذاب، فاستبشروا وبَشَّروا بالَّذي عرفوه، بعد أن أيقنوا أن نزول هذا الكتاب إلى الأرض إنما هو دعوة من الله لكلِّ من بلغهُ من إنس وجن، وأدركوا أن محمَّداً صلى الله عليه وسلم داعٍ إلى الله؛ فنادَوْا قومهم: {ياقومنا أجيبوا داعيَ الله وآمنوا به} ليقينهم أنَّ من لا يُجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما دعا إليه من التوحيد والعمل بطاعته، فليـس بمنجاة من عـذاب الله حين يشاء عقابه، ولن يجد له من ينصره ويدفع عنه العذاب، بعد أن بلغ الغاية في الضلال والبعد عن الصِّراط السَّوي. فطريق الحقِّ واضح، والوصول إليه ميسور لمن يقصده، وقد أثِمَ مَنْ جانَبَهُ وأعرض عنه، وكذلك يأثم من عرفه وقصَّر في الدلالة عليه.