المقتفى لأمر الله أبو عبدالله محمد بن المستظهر بالله ولد في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأمه حبشية وبويع له بالخلافة عند خلع ابن أخيه وعمره أربعون سنه وسبب تلقيبه بالمقتفى أنه رأى في منامه قبل أن يستخلف بستة أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له سيصل هذا الأمر إليك فاقتف لأمر الله فلقب المقتفى لأمر الله وبعث السلطان مسعود بعد أن أظهر العدل ومهد بغداد فأخذ جميع مافي دار الخلافة من دواب وأثاث وذهب وستور وسرادق ولم يترك في إصطبل الخلافة سوى أربعة افراس وثمانية أبغال برسم الماء فيقال إنهم بايعوا المقتفى على أن لايكون عنده خيل ولا آلة سفر ثم في سنة إحدى وثلاثين أخذ السلطان مسعود جميع تعلق الخليفة ولم يترك له إلا العقار الخاص وأرسل وزيره يطلب من الخليفة مائة ألف دينار فقال المقتفى ما رأينا أعجب من أمرك أنت تعلم أن المسترشد سار إليك بأمواله فجرى ما جرى وأن الراشد ولى ففعل مافعل ورحل وأخذ ما تبقى ولم يبق إلا الأثاث فأخذته كله وتصرفت في دار الضرب وأخذت التركات والجوالي فمن أي وجه نقيم لك هذا المال وما بقي إلا أن نخرج من الدار ونسلمها فإني عاهدت الله أن لا آخذ من المسلمين حبة ظلما فترك السطان الأخذ من الخليفة وعاد إلى جباية الأملاك من الناس وصادر التجار فلقي الناس الأولى أعيدت بلاد الخليفة معاملاته والتركات إليه وفي هذه السنة من ذلك شدة ثم في جمادي رقب الهلال ليلة الثلاثين من شهر رمضان فلم ير فأصبح أهل بغداد صائمين لتمام العدة فلما أمسوا رقبوا الهلال فما رأوه أيضا وكانت السماء جليلة صاحية ومثل هذا لم يسمع بمثله في التواريخ وفي سنة ثلاث وثلاثين كان ببحترة زلزلة عظيمة عشرة فراسخ في مثلها فأهلكت خلائق ثم خسف ببحترة وصار مكان البلد ماء أسود وفيها استولى الأمراء على مغلات البلاد وعجز السلطان مسعود ولم يبق له إلا الاسم وتضعضع أيضا أمر السلطان سنجر فسبحان مذل الجبابرة وتمكن الخليفة المفتفى وزادت حرمته وعلت كلمته وكان ذلك مبدأ صلاح الدولة العباسية فلله الحمد وفي سنة إحدى وأربعين قدم السلطان مسعود بغداد وعمل دار ضرب فقبض الخليفة على الضراب الذي تسبب في إقامة دار الضرب فقبض مسعود على حاجب الخليفة فغضب الخليفة وغلق الجامع والمساجد ثلاثة أيام الواعظ فحضر السلطان مسعود وتعرض بذكر مكس البيع وماجرى على الناس ثم اطلق الحاجب فأطلق الضراب وسكن الأمر وفيها جلس أبن العبادي ثم قال ياسلطان العالم أنت تهب في ليلة لمطرب بقدر هذا الذي يؤخذ من المسلمين فاحسبني ذلك المطرب وهبه لي واجعله شكرا لله بما أنعم عليك فأجاب ونودي في البلد بإسقاطه وطيف بالألواح التي نقش عليها ترك المكوس وبين يديه الدباب والبوقات وسمرت ولم تزل إلى أن أمر الناصر لدين الله بقلع الألواح وقال مالنا حاجة بآثار الأعاجم وفي سنة ثلاث وأربعين حاصرت الفرنج دمشق فوصل إليها نور الدين محمود بن زنكي وهو صاصب حلب يؤمئذ وأخوه غازي صاحب الموصل فنصر المسلون والله الحمد وهزم الفرنج واستمر نور الدين في قتال الفرنج وأخذ ما استولوا عليه من بلاد المسلمين وفي سنة اربع وأربعين مات صاحب مصر الحافظ لدين الله واقيم ابنه الظافر إسماعيل وفيها جاءت زلزلة عظيمة وماجت بغداد نحو عشر مرات وتقطع منه جبل بحلوان وفي سنة خمس وأربعين جاء باليمن بمطر كله دم وصارت الآرض مرشوشة بالدم وبقي اثره في ثياب الناس وفي سنة سبع وأربعين مات السلطان مسعود قال ابن هبيرة وهو وزير المقتفى لما تطاول على المقتفى أصحاب مسعود وأساؤا الأدب ولم يمكن المجاهرة بالمحاربة اتفق الرأي على الدعاء عليه على الدعاء عليه شهرا كما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رعل وذكوان شهرا فبتدأ هو والخليفة سر كل واحد في موضعه يدعو سحرا من ليلة تسع وعشرين من جمادي الأولى واستمر الأمر كل ليلة فلما تكامل الشهر مات مسعود على سريره ولم يزد على الشهر يوما ولا نقص يوما واتفق العسكر على سلطنة ملكشاة وقام بأمره خاصبك ثم أن خاصبك قبض على ملكشاة وطلب أخاه محمدا من خوزستان فجاءه فسلم إليه السلطنة وأمر الخليفة حينئذ ونهى ونفذ كلمته وعزل من كان السلطان ولاه مدرسا بالنظامية وبلغه أن في نواحي واسط تخبطا فسار بعسكره ومهد البلاد ودخل الحلة والكوفة ثم عاد إلى بغداد مؤيدا منصورا وزينت بغداد وفي سنة ثمان وأربعون خرجت الغز على السلطان سنجر وأسروه وأذاقوه يبكي على نفسه وله اسم السلطنة وراتبه في قدر راتب سائس من ساسته وفي سنة تسع وأربعين قتل بمصر صاحبها الظافر بالله العبيدي وأقاموا ابنه الفائز عيسى صبيا صغيرا ووهى أمر المصريين فكتب المقتفى الذل وملكوا بلاده وبقوا الخطبة باسمه وبقي معهم صورة بلا معنى وصار عهدا لنور الدين محمود بن زنكي وولاه مصر وأمره بالمسير إليها وكان مشغولا بحرب الفرنج وهو لايفتر من الجهاد وكان تملك دمشق في صفر من هذا العام وملك عدة قلاع وحصون بالسيف وبالأمان من بلاد الروم وعظمت ممالكه وبعد صيته فبعث إليه المقتفى تقليدا وأمره بالمسير إلى مصر ولقبه بالملك العادل وعظم سلطان المقتفى واشتدت شوكته واستظهر على المخالفين وأجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره ولم يزل أمره في تزايد وعلوا إلى أن مات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة قال الذهبي كان المقتفى من سروات الخلفاء عالما أديبا شجاعا حليما دمث الأخلاق كامل السودد خليقا للإمامة قليل المثل في الأئمة لايجرى في دولته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه وكتب في خلافته ثلاث ربعات وسمع الحديث من مؤدبه أبي البركات بن ابي الفرج بن السني قال ابن السمعاني وسمع جزء ابن عرفة مع أخيه المسترشد من ابي القاسم ابن بيان روى عنه أبو منصور الجواليقي اللغوي إمامه والوزير أبن هبيرة وزيره وغيرهما وقد جدد المقتفى بابا للكعبة واتخذ من العقيق تابوتا لدفنه وكان محمود السيرة مشكور الدولة يرجع إلى دين وعقل وفضل ورأي وسياسة جدد معالم الإمامة ومهد رسوم الخلافة وباشر الأمور بنفسه وغزا غير مرة وامتدت أيامه وقال أبو طالب عبدالرحمن بن محمد بن عبدالسميع الهاشمي في كتاب المناقب العباسية كانت أيام المقتفى نضرة بالعدل زاهرة بفعل الخيرات وكان على قدم من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه وكان في أول أمره متشاغلا بالدين ونسخ العلوم وقراءة القرآن ولم ير مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم خليفة في شهامته وصرامته وشجاعته مع ماخص به من زهده وورعه وعبادته ولم تزل جيوشه منصورة حيث يممت وقال ابن الجوزي من أيام المقتفى عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق له منازع وقبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة ومن سلاطين دولته السلطان سنجر صاحب خرسان والسلطان نور الدين محمود صاحب الشام وكان جوادا كريما محبا للحديث وسماعه معتنيا بالعلم مكرما لأهله قال ابن السمعاني حدثنا أبو منصور الجواليقي حدثنا المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين حدثنا أبو البركات أحمد بن عبدالوهاب حدثنا أبو محمد الصيرفيني حدثنا المخلص حدثنا إسماعيل الوراق حدثنا حفص بن عمرو الربالي حدثنا أبو سحيم حدثنا عبدالعزيز بن صهيب عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لايزداد الأمراء إلا شدة ولا الناس إلا شحا ولاتقوم الساعة إلا على شرار الناس ولما عاد المقتفى الإمام أبا منصور الجواليقي النحوي ليجعله إماما يصلى به دخل عليه فما زاد على أن قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وكان ابن التلميذ النصراني الطبيب قائما فقال ماهكذا يسلم على أمير المؤمنين ياشيخ فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي وقال يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية وروى الحديث ثم قال يا امير المؤمنين لو حلف حالف ان نصرانيا او يهوديا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه لما لزمته كفارة لأن الله ختم على قلوبهم ولن يفك ختم الله إلا الإيمان فقال المقتفى صدقت واحسنت وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع غزارة أدبه وممن مات في ايام المقتفى من الأعلام ابن الأبرش النحوي ويونس بن غيث وجمال الإسلام بن المسلم الشافعي وأبو القاسم الأصفهاني صاحب الترغيب وابن برجان والمازري المالكي صاحب كتاب المعلم بفوائد مسلم والزمخشري والرشاطي صاحب الأنساب والجواليقي وهو إمامه وابن عطيه صاحب التفسير وأبو السعادات ابن الشجري والإمام ابو بكر ابن العربي وناصح الدين الرجاني الشاعر والقاضي عياض والحافظ أبو الوليد بن الدباغ وأبو الأسعد هبة الرحمن القشيري وابن علام الفرس المقرئ والرفاء الشاعر والشهر ستاني صاحب الملل والنحل والقيسراني الشاعر ومحمد بن يحيى تلميذ الغزالي وابو الفضل بن ناصر الحافظ وأبو الكرم الشهرزورى المقرئ والوأواء الشاعر وابن الجلاء إمام الشافعية وخلائق آخرون