الفصل الاخير
( المفروض يكون على مرتين بس انا اختصرتلكم الوقت شويه )
---------------------------------------
على الرغم من التعارض الواضح، في مذكراته، مع مانشر عن تفاصيل سقوط
جواسيس فضيحة (لافون)، فأنا -شخصياً- أكثر ميلاً لتصديق قصة (رفعت)، بل
وأعتقد أن الهدف من نشر الأمر، على نحو مختلف، كان حمايته بالدرجة الأولى
بعدما انتقل عمله من الشرطة والبوليس السياسي إلى عالم الجاسوسية، وتطوَّر
الهدف من وجوده، في مرحلة تالية من العملية..
ولقد تم إلقاء القبض على (رفعت) و(إيلي كوهين)، كأفراد في الوحدة
(131)، ثم أطلق سراحهما فيما بعد، لعدم وجود ما يدينهما، فاختفى بعدها (إيلي)،
في حين بقي (رفعت)، ليواصل الحياة لبعض الوقت، باسم (جاك بيتون)، الذي لم
يتطرَّق إليه الشك حتماً، بدليل أن الإسرائيليين قد اتهموا عضواً آخر، من الوحدة (131)
بكشف أسرارها، وهو (بول فرانك)، الذي حوكم بالفصل، فور عودته إلى (إسرائيل)
وصدر ضده الحكم بالسجن لاثني عشر عاماً..
وحتى ذلك الحين، وكما يقول (رفعت) في مذكراته، كانت مهمته تقتصر على
التجسُّس على مجتمع اليهود في (الإسكندرية)، ولكن عقب نجاح عملية الوحدة (131)
تم استدعاؤه إلى (القاهرة)، ليلتقي بضابط حالته الجديد (علي غالي)، الذي واجهه
لأوَّل مرة بأنه قد نجح تماماً في مهمته، وأن الخطة ستتطوَّر، لتتم الاستفادة به أكثر
خارج الحدود، خاصة وأن سمعته، كفرد سابق في الوحدة (131)، ستخدع
الوكالات اليهودية، وستدفعها للتعامل معه كبطل..
وهنا أيضاً، أعتقد أنه من الأروع أن نقرأ تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة من مذكرات (رفعت)
مباشرة، عندما يقول:
مرة أخرى وجدت نفسي أقف عند نقطة تحول خطيرة في حياتي. لم أكن أتصور
أنني ما أزال مديناً لهم، ولكن الأمر كان شديد الحساسية عندما يتعلق بجهاز المخابرات.
فمن ناحية روعتني فكرة الذهاب إلى قلب عرين الأسد. فليس ثمة مكان للاختباء
في (إسرائيل)، وإذا قبض عليَّ هناك فسوف يسدل الستار عليَّ نهائياً.
والمعروف أن (إسرائيل) لا تضيع وقتاً مع العملاء الأجانب. يستجوبونهم ثم يقتلونهم.
ولست مشوقاً إلى ذلك. ولكني كنت أصبحت راسخ القدمين في الدور الذي تقمصته
كما لو كنت أمثل دوراً في السينما، وكنت قد أحببت قيامي بدور (جاك بيتون).
أحببت اللعبة، والفارق الوحيد هذه المرة هو أن المسرح الذي سأؤدي عليه دوري
هو العالم باتساعه، وموضوع الرواية هو الجاسوسية الدولية. وقلت في نفسي أي
عرض مسرحي مذهل هذا؟... لقد اعتدت دائماً وبصورة ما أن أكون مغامراً مقامراً
وأحببت مذاق المخاطرة. وتدبرت أمري في إطار هذه الأفكار، وتبين لي أن لا خيار أمامي.
سوف أؤدي أفضل أدوار حياتي لأواجه خيارين في نهاية المطاف: إما أن يقبض
عليَّ وأستجوب وأشنق، أو أن أنجح في أداء الدور وأستحق عليه جائزة أوسكار.
وكنت مقتنعاً أيضاً بأني أعمل الصواب من أجل مصر وشعبها.
قلت لغالي:
- إذا كنت تعتقد أنني قادر على أداء المهمة فإني لها.
ثم كان السؤال الثاني:
- كيف نبدأ من هنا؟
- سوف يجري تدريبك على العمل على الساحة الدولية. كل ما تتعلمه
يجب أن يسري في دمك. هذا هو سر اللعبة. أنت مخرج عرضك المسرحي
وإما أن تنجح فيه بصورة كاملة، أو تواجه الهلاك.
تصافحنا علامة الموافقة وبدأت جولة تدريب مكثف. ودرست تاريخ اليهود الأوروبيين
والصهيونية وموجات الهجرة إلى فلسطين. تعلمت كل شيء عن الأحزاب السياسية
في (إسرائيل) والنقابات و(الهستدروت) أو اتحاد العمال، والاقتصاد والجغرافيا
والطوبوغرافيا وتركيب (إسرائيل). وأصبحت خبيراً بأبرز شخصيات (إسرائيل)
في السياسة والجيش والاقتصاد عن طريق دراسة أفلام نشرات الأخبار الأسبوعية.
وأعقب هذا تدريب على القتال في حالات الاشتباك المتلاحم والكر والفر
والتصوير بآلات تصوير دقيقة جداً، وتحميض الأفلام وحل شفرات رسائل أجهزة
الاستخبارات والكتابة بالحبر السري، ودراسة سريعة عن تشغيل الراديو، وفروع
وأنماط أجهزة المخابرات والرتب والشارات العسكرية. وكذلك الأسلحة الصغيرة
وصناعة القنابل والقنابل الموقوتة. وانصب اهتمام كبير على تعلم الديانة الموسوية
واللغة العبرية. واعتدت أن أستمع كل يوم ولمدة ساعات إلى راديو إسرائيل.
بل وعمدت إلى تعميق لهجتي المصرية في نطق العبرية لأنني في نهاية الأمر مولود في مصر.
بعد التدريب تحددت لي مهنة. تقرر أن أكون وكيل مكتب سفريات حيث إن هذا
سيسمح لي بالدخول إلى (إسرائيل) والخروج منها بسهولة، وتقرر أن أؤدي اللعبة
لأطول مدة ممكنة. لم يكن ثمة حد زمني، وكان لي الخيار بأن أترك الأمر كله
إذا سارت الأمور في طريق خطر. وسوف نرى إلى أين تمضي بنا الأمور. وقيل لي
إنني أستطيع بعد ذلك العودة إلى (مصر) وأستعيد شخصيتي الحقيقية.
وتسلمت مبلغ 3000 دولار أمريكي لأبدأ عملي وحياتي في (إسرائيل).
وفي يونيو1956 استقللت سفينة متجهة إلى (نابولي) قاصداً في الأصل أرض الميعاد.
ودعت (مصر) دون أن أدري ما سوف يأتي به المستقبل.
واعتباراً من هذه المرحلة، تنقلنا مذكرات (رفعت الجمًّال)، التي تركها لزوجته بعد وفاته
إلى تلك المرحلة الجديدة تماماً من حياته، والتي سافر خلالها إلى (نابولي)،
حيث التقطته الوكالة اليهودية هناك، وبذلت جهدها لإقناعه بالسفر إلى (إسرائيل)،
(أرض الميعاد)، كما كانت تقول دعاياتهم بمنتهى الإلحاح أيامها..
وفي هذا الجزء بالذات، وربما دون أن يدري (رفعت) نفسه، تتبدّى عبقرية العملية كلها،
إذ لم يبد هو أية لهفة، على السفر إلى (إسرائيل)، إلا أنه لم يمانع بشدة في الوقت نفسه،
وإنما جعلهم يعتقدون أنهم قد نجحوا في إقناعه، وتركهم يدفعونه إلى ظهر سفينة،
حملته إلى (إسرائيل)، التي استقبله فيها رجل مخابرات يُدعى (سام شواب)، واستجوبه
بعض الوقت، ثم منحه تأشيرة إقامة، وجواز سفر إسرائيلي فيما بعد، مما يؤكِّد
أن عملية المخابرات المصرية قد نجحت بالفعل..
وبمنتهى القوة..
ويتحدَّث (رفعت الجمَّال)، في تلك المرحلة من مذكراته، عن إنشائه لمكتب سفريات
(سي تورز)، في 2 شارع (برينر) في (تل أبيب)، وصداقته مع (موشي دايان)،
ومحاولات (سام شوب)، التقرُّب إليه، ودفعه الفاتنة (راكيل إبشتين) في طريقه،
ومحاولاته هو لاكتساب ثقة (دايان) و(شوب)، و(عزرا وايزمان)، ثم ينتقل بنا فجأة
إلى حدث شديد الأهمية والخطورة..
فمع اقترابه من مواقع الأحداث، علم (رفعت) بأمر العدوان الثلاثي قبل وقوعه،
وعرف الكثير من تفاصيله، وسافر إلى (روما) و(ميلانو) بالفعل، بعد ترتيبات دقيقة؛
ليلتقي برئيسه، ويخبره بكل ما لديه..
ولكن أحداً لم يصدّق، أو يقتنع بأهمية وخطورة تلك المعلومات، التي أتى بها
(رفعت)، من قلب (إسرائيل)...
ووقع العدوان الثلاثي..
وحدث ما حدث..
وتساءل (رفعت): لماذا لم يصدق أحدهم تحذيره!…
ولكنه لم يحصل على الجواب أبداً..
وفي عام 1957م، فوجئ (رفعت) بزيارة من (إيلي كوهين)، زميله السابق، في
الوحدة (131)، الذي سعى إليه، واستعاد صداقته معه، قبل أن يبدأ مهمته، التي
سافر من أجلها إلى (أمريكا الجنوبية)، للاندماج بمجتمع المهاجرين السوريين،
تمهيداً لزرعه في (سوريا) فيما بعد، والتي ساهم (رفعت) نفسه في كشف أمرها،
عندما أبلغ المخابرات المصرية، أن صورة (كامل أمين ثابت)، التي نشرتها الصحف،
المصرية والسورية، إنما هي لزميله السابق، الإسرائيلي (إيلي حوفي كوهين)..
وفي مذكراته يمضي (رفعت) في سرد حياته في (تل أبيب)، ويروي قصة اختيار
مكتبه السياحي لإقامة الجسر الجوي؛ لنقل يهود (بيروت) إلى (إسرائيل)، مما يؤكِّد
ثقة السلطات الإسرائيلية البالغة فيه، ويمرّ خلال هذا برواية رحلته السرية إلى (مصر)،
في صيف 1958م، وبقصة الرحلة، التي أهداها إلى (إيلي كوهين) وزوجته، بمناسبة
زفافهما، ثم يتوقَّف بعض الوقت؛ ليروي صداقاته وعلاقاته الوثيقة، بقادة (إسرائيل)
في ذلك الوقت، ليقول في هذه الفقرة: (كثفت اتصالاتي بكل من (ديان)، و(وايزمان)،
و(شواب)، ونظراً لصلة (ديان) الوثيقة بـ(بن جوريون)، فقد استطعت أن أكسب ثقة
(بن جوريون) أيضاً، وأصبحت عضواً في مجموعة الشباب المحيطين به، إذ كان يحب
أن يحيط به الشباب ويستمع لآرائهم وأفكارهم. أما (جولدا مائير) فكانت تتميَّز بأنها
امرأة عطوف، وأبدت وداً شديداً نحوي، وكثيراً ما تساءلت بيني وبين نفسي ماذا
عساهم أن يقولوا عني لو اكتشفوا حقيقتي وعرفوا أني استخدمتهم)...
والواضح أيضاً، في هذه المرحلة من المذكرات، أن الفترة من 1959م، وحتى 1963م،
لم تحمل متغيرات قوية، تستحق الإشارة إليها، إذ قفز (رفعت) بالأحداث دفعة واحدة،
ليروي كيف أبلغ (مصر) باعتزام (إسرائيل) إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة
التكنولوجية الحديثة، أثناء لقائه برئيسه (علي غالي) في (ميلانو)، قبل أن يطرح أوَّل
مطلب له، منذ فترة طويلة..
أوّل وأخطر مطلب..
على الإطلاق.
طوال فترة عمله، في قلب إسرائيل، لحساب المخابرات المصرية، لم يتقدّم (رفعت الجمّال)
بمطلب واحد للمسؤولين..
حتى كان مطلبه هذا..
مازال هناك تكمله