الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، سبحانه أحمده وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأسأله الهدى والتقى والعفاف والغنى ..وأشـهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له .. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك اللهم صل وسلم ، وبارك وأنعم ، على عبدك ورسولك سيدنا محمد ، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اتقوا الله عباد الله فى السر والعلن (( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )) النحل128
أيها الإخوة المؤمنون :
سعادة المرء فى طاعة الله وشقاؤه في معصيته ، فرسالة الإنسان فى الحياة أن يعرف الله ولا ينكره ، ويشكره ولا يكفره
قال تعالى (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون *إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )) .[ الذاريات 58:56 ]
وقال تعالى (( يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون )) [البقرة /21 ]
سبحانه يخاطب الخلق جميعاً إنسهم وجنهم ، مسلمهم وكافرهم ، تقيهم وفاجرهم ، بل الكون كله من خلق الله ، خلقه لهذه الغاية النبيلة فهو مسخر لها ، قائم بأمرها (( ألم تر أن الله يسبح له من فى الســموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسـبيحه والله عليم بما يفعلون )) [النور / 41 ]
هـذا الكون كله : بره وبحره ، وسهله وجبله ، وأرضه وسماؤه . يذكر الله ولا ينساه فما بال الإنسان الذي كرمه الله بالعقل وأكرمه بالرسل وشرفه بالكتب وسخر له الكائنات وهداه إلى أسرار ما حوله ، وأعطاه كل ما سأل هذا الإنسان ينسى ويجهل ، ويقرب ويبعد ، ويقبل ويدبر ، عن الله رب العالمين .
أيها الإخوة المؤمنون :
العبادة ليست وقفاً على شعائر دينية تنتهي بأدائها ، ولكن العبادة المطلوبة هى العبادة بمعناها الواسـع الذي يشمل كل جوانب الحياة فطلب العلم فريضة ، وطلب الرزق عبادة ، والوصول إلى الله عن طريق البحث والاكتشاف عبادة ، والعمل لرفعة الوطن عبادة ، وأداء الحقوق والواجبات عبادة ، والقيام بحاجات النفس والأهل والولد عبادة ، مادامت فى حدود الحلال .
من هنا يقول صاحب الظلال عليه رحمة الله فى تفسيره لقول الحق تبارك وتعالى (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ))
قال : حقيقة العبادة تتمثل إذن فى أمرين رئيسيين :
الأول :
هو استقرار معنى العبودية فى النفس ، وأن ليس وراء ذلك من شئ .
الثاني :
هو التوجه إلى الله بكل حركة فى الضمير، وكل حركة فى الجوارح وكل حركة فى الحياة ... ثم يقول : وبهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض وعمارة الأرض كالجهاد فى سـبيل الله ، والجهاد فى سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضا بقدر الله ، كلها عبادة ، وكلها تحقيق للوظيفة الأولي التي خلق الله الجن والإنس لها .
أيها الإخوة المؤمنون :
لقد مضى شهر رمضان إلى ربه ، تاركاً بصمات الخير والرضا النفسي على من صام نهاره وقام ليله وكف عن الحرام جوارحه ، ونرجو أن نكون قد خرجنا بنصيب وافر من الحسنات والمكارم وأن يكون رصيدنا من الخير تثقل به الموازين يوم القيامة .. لقد ذقنا فيه حلاوة الطاعة وجمال القرب من الله وأنوار الهداية من كتابه الذي أنزل فيه ، وسهرنا الليل قياماً لا يرانا أحد وقضينا النهار صياماً من أجل الله لا من اجل غيره .
فلا يجوز أن تضيع كل هذه المكاسب من أيدينا بعد أن وفقنا الله إليها .. ولا يجوز أن نضل عن الطريق بعد أن هدانا الله إليه .. ولا يجوز أن نبدد هذه الثروة من أيدينا بعد أن وصلنا الليل بالنهار فى تحصيلها .. ولا يجوز أن نعود إلى المعصية بعد أن ذقنا حلاوة الطاعة .
فكثير من الناس يظن أنه كان في سجن ثم خرج منه ، و عليه أن يعوض ما فات .. وكثير من الناس يظن أنه غفر له ما تقدم من ذنبه ، وعليه أن يبدأ من جديد في إعطاء النفوس هواها من حلال أو حرام ، وأن أمامه عاماً كاملاً يفعل فيه ما يشاء إلى أن يعود إليه رمضان ،
ولكن هل ذاق هذا الإنسان حلاوة العبادة ؟ وهل ضمن هذا الإنسان أن يعيش إلى غد ؟ هل ضمن أن يموت على الإسلام ؟ ألا يخشى أن يأتيه الأجل وهو في معصيته ؟
ورسول الله r يقول : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ، وكان ابن عمر يقول : إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " ( رواه البخاري ) .
أوصيك – يا أخي المسـلم –
بأن تحافظ على ما قدمت من أعمال وقربات تبتغي بها وجه الله ، لا تضيعها عبثاً ، ولا تفرط فيها أبداً ، فالأعمال توزن يوم القيامة بميزان الذرة التي لا ترى بالعين المجردة (( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )) .[ الزلزلة : 7،8]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم