إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .. وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد
فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة .. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك ، سيدنا محمد ، الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ،
فقالت عائشة رضي الله عنها : لم تصنع هذا يا رسول الله ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال:أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً"[رواه البخاري ]
يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً { [ النساء : 1 ]
أيها الإخوة المؤمنون :
يقول الله تعالى : (( الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار )) [ إبراهيم : 32ـ 34 ]
هذا الاسـتعراض الرائع لنعم الله تعالى في الكون الفسيح الرحب ، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، والتي نراها بأعيننا ، وتجرى عليها حياتنا ، سخرها الله للإنسان ، ليستفيد منها وينعم ، وتتوقف حياته عليها ويسلم ، ولا يستطيع العيش بدونها :
السماء والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والبحار والأنهار ، والماء والثمار ، وجميع
( 2)
النعم التي تحيط به .. كلها نعم خلقها الله للإنسان ، وسخرها له وحده ، وجعلها في خدمته ، وتتكرر كلمة [ لكم ] خمس مرات ، يقرن الله بها كل نعمة .
كلها خاضعة للإنسان كإنسان ، يستوي في الانتفاع بها المسلم والكافر ، والبر والفاجر ، ومن يعبد الله ومن يعبد غيره ... بل الإنسان نفسه نعمة : بصره نعمة ، وسمعه نعمة ، وقلبه نعمة ، وما يعلمه في نفسه وما لا يعلمه نعمة . يقول الله عز وجل : (( والله اخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون )) [ النحل : 78 ]
وقال عز وجل : (( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة )).[ لقمان : 20 ] ..
وكل واحدة من هذه النعم تستوجب الشكر عليها ، والقيام بحقها ، والمحافظة عليها ، واستعمالها فيما خلقت له .
يقول الإمام ابن قيم الجوزية : الشكر هو نصف الإيمان ، فالإيمان نصفان : نصف شكر ونصف صبر ، وقد أمر الله به ، ونهى عن ضده ، وأثنى على أهله بأحسن الجزاء ، وجعله سبباً للمزيد من فضله ، وحارساً وحافظاً لنعمه ، وأخبر أن أهله المنتفعون بآياته ، واشتق لهم اسماً من أسمائه ، فإنه سبحانه هو الشكور ، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره ، بل يعيد الشاكر مشكوراً ، وهو غاية الرب من عبده ، وأهله هم القليل من عباده ، قال تعالى (( واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون )) [ النحل / 114 ]
وقال (( واشكروا لي ولا تكفرون )). [ البقرة : 152 ]
وقال عن نوح عليه السلام (( انه كان عبداً شكوراً )) [ الإسراء : 3 ]، وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام (( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه ))
[ النحل : 120 : 121 ] .
أيها الإخوة المؤمنون :
يقول الله تعالى (( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )) [ إبراهيم : 7 ]
فمن أراد أن يزيد الله في نعمه فليشكر الله : فمن شكر الله على ما رزقه وسع عليه في رزقه ، ومن شكر الله على صحته زاد الله في صحته ، ومن شكره على توفيقه للطاعة وفقه الله لكل طاعة .. أما من كفر النعمة وجحدها ، فلم يقم بواجب حقها فإن عذاب الله شديد ، بحرمانه منها ، وسلبه إياها في الدنيا والآخرة ، وعذابه له بعذاب لا قبل له به .
( 3)
والشكر هو الاعتراف بالنعمة والقيام بحقها . فمن أراد أن يشكر الله على نعمة البصر فليغض بصره عن الحرام ، ومن أراد أن يشكر الله على نعمة السمع فليكف سمعه عما يغضب الله ، ومن أراد أن يشكر الله على نعمة العافية فليصن جوفه عن أكل أموال الناس بالباطل ومن هنا نعى الله على أناس أكلوا خيره وعبدوا غيره ، وتقلبوا في فضله وشكروا سواه ،
فقال سبحانه (( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)). [ غافر : 61 ]
وقال سبحانه (( وقليل من عبادي الشكور )). [ سبأ : 13 ]
وقال سبحانه (( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون )) [ الآعراف : 10 ] .
مع أن الإنسان إذا شكر الله فسيعود جزاء شكره إليه ، ولا يضيع عند الله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . قال تعالى : (( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم )). [ النمل : 40 ]
غنى عن عباده وعن شكرهم ،
وقال سبحانه (( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد )). [ إبراهيم : 8 ]
وقال في الحديث القدسي " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا ادخل البحر " [ رواه مسلم ]
أيها الإخوة المؤمنون : ـ
في مثل هذا اليوم والذي بعده تمر بنا ذكريات ندية عاطرة ليومين عظيمين من أيام التاريخ يوم الاستقلال ويوم التحرير ، حينما أخذت فلول الظلم والطغيان تجر أذيال الخيبة والانكسار .. يومان أشرقت فيهما شمس الحرية ، وعاد الحق فيهما إلى نصابه .
اننا لا نريد أن ننكأ الجراح ، ولا أن نستعيد المأساة التي قاساها شعب الكويت بصورها الحزينة الكئيبة ، على يد جار سوء ، لم يرع عهداً ولا ذمة ، بل عض اليد التي امتدت إليه بسخاء وكرم ، وتنكر لجميع المواثيق والأعراف الدولية ، والآداب الإسلامية الرحيمة .
وحسبنا الله ونعم الوكيل . ثم وقوف العالم كله وقفة رجل واحد إلى جانبنا ، ينبذ الظلم ، ويرفض العدوان ، ويرد الغاصب المحتل إلى حجمه الطبيعي ، ممقوتاً مدحوراً ، معزولاً عن بقية دول
( 4 )
العالم ، يتجرع مرارة الذل وآلام الحرمان .. اللهم لا شماتة .. وصدق رسول الله r حين قال : " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد " [ متفق عليه ] .
أيها الإخوة المؤمنون : ـ
ألا ما أحلى النصر ، وما أعظمه ، إنه نعمة من نعم الله تعالى لا تعادلها نعمة فالحمد لله .
الحمد لله الذي أعاد الوطن إلى أصحابه .. الحمد لله الذي رد الحق إلي نصابه .. الحمد لله الذي رد إلينا كرامتنا،وأعاد الينا حقوقنا . الحمد لله على نعمة الأمن والأمان .. الحمد لله الذي أذل عدونا .. الحمد لله الذي أعاد الكويت إلى مكانها على خريطة العالم .. الحمد لله ، نحمده ونشكره على نعمه.
والشكر ليس بالكلام ، ولكن بالعمل : فلنرحم كل ضعيف ، ولننصر كل مظلوم ، ولنعط كل محروم ، ولنكرم كل غريب ، ولنصن أنفسنا من الزهو والغرور ، والكبر والخيلاء .. لقد ابتليتم فصبرتم ، وأعطيتم فشكرتم ، وكنتم ضعفاء فقواكم الله ، وكنتم مظلومين فنصركم الله ، (( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ))[ الآنفال : 26 ] .
هكذا أمرنا الله تبارك وتعالى . أن نقابل نعمة النصر بالتسبيح والتحميد والشكر ، فقال عز وجل : (( إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كانا تواباً )) [ سورة النصر ] .
وهكذا علمنا رسولنا ، فعندما فتح الله عليه مكة دخلها بتواضع وذكر ورحمة . فقد ذكر ابن اسحق في السيرة أن رسول الله لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته ، وقد وضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى لقد كادت لحيته r تمس واسـطة الرحل ـ و هكذا يكون الشكر على النعمة كما قال تعالى على لسان سليمان عليه السلام .
(( هذا من فضل ربي ، ليبلوني أ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم )) [ النمل / 40 ] .