ربما كان للفتوى نصيب بارز جداً من ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فأضحى من اليسير أن يتعرف الإنسان على فتواه التي يريدها من شيوخ بلده أو شيوخ غيرها، ولكن الجديد هو اختراع جهاز إلكتروني يقوم مقام المفتي يطلق عليه اسم "المفتي الإلكتروني"، وهو جهاز يعتمد على الذكاء الاصطناعي، حيث سيقوم الجهاز بإعطاء الرأي الفقهي في قضايا وشؤون المسلمين في الوقت المعاصر، وهو ما سيمثل ثورة في عالم الإفتاء في العالم الإسلامي.
والجهاز عبارة عن حاسوب آلي ضخم جداً، يتم تحميله بكافة البيانات والمعلومات التي تخص شخصاً ما، وكل ما ورد ذكره عنه في كتب التاريخ والوثائق التي تدل على ردود فعله تجاه كل المواقف في فترة حياته، ومن خلال عملية الذكاء الاصطناعي أو المحاكاة، وسيقوم الجهاز بمحاكاة رد الفعل المتوقع من هذا الشخص وكأنه على قيد الحياة تماماً تجاه أي موقف أو تساؤل سيوجه إليه. وقد تم تحميل كافة ما ورد عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في كتب التاريخ الإسلامي وحياته، فضلاً عن السنة النبوية المطهرة والقرآن الكريم.
وكأن الفكرة بشكل يسير تقول: إنها تحاكي شخص الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فيما لو سئل عن سؤال معين، وكأنه تنبأ بما قد يجيب عنه الرسول لهذا الشخص، وأنها تتنبأ بما يقوله بنسبة نجاح تصل إلى 99%؛ استناداً إلى الذكاء الاصطناعي.
رفض شرعي لإفتاء الجهاز
هذه الفكرة لاقت رفضاً كبيراً من عدد من علماء الأزهر وعدد من فقهاء العالم الإسلامي، وعلى رأسهم لجنة الفتوى بالجامع الأزهر الشريف ممثلة في رئيسها الشيخ عبدالحميد الأطرش، ورئيس لجنة الفتوى الأسبق الشيخ جمال قطب، ود. عمر القاضي أستاذ الفقه والشريعة بجامعة الأزهر بالقاهرة، والشيخ الدكتور عكرمة صبري مفتي القدس السابق، ود. علي الزغول عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة مؤتة بالأردن، والشيخ سالم الشيخي الأمين العام للجنة الفتوى ببريطانيا وعضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
واستند الفقهاء الرافضون ل"مفتٍ إلكتروني" يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم في الإفتاء على عدد من الاعتبارات الشرعية، من أهمها: أن الفتوى تكليف لا تشريف، ومنهج الإسلام فيها التحرج وعدم التسرع، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتحرجون من الفتوى؛ لأن المفتي موقّع عن الله سبحانه وتعالى في بيان الحلال والحرام.
كما أن الفتوى تحتاج إلى نوع من التشاور والمراجعة، ولهذا كان الصحابة يحيل بعضهم إلى بعض في الإفتاء، وكما هو معلوم لدى الفقهاء والأصوليين أن للفتوى شروطاً، تتمثل حفظ القرآن والسنة والعلم باللغة العربية وأقوال الصحابة والسلف والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وغيرها من الشروط، وهي لا تتوافر في هذا الجهاز.
يضاف إلى هذا أنه من الواجب أن يعرف المفتي الظروف والملابسات التي تحيط بحالة المستفتي، وأن يعرف حالته النفسية؛ إذ الفتوى تمتاز بالخصوص وليس العموم، فما يقال لشخص قد لا يقال لآخر، وما يتبع حالة الاستفتاء من المراجعة بين المفتي والمستفتي لمعرفة بعض التفاصيل اللازمة لبناء الفتوى على وجه صحيح.
كما استند الفقهاء على أن آلية عمل هذا الجهاز ودقته غير مأمونة، ولا يعرف طبيعة التخزين فيه، وعلى أية طريقة سيكون، وبالتالي فالأولى إبعاد الفتوى عنه. وطبيعة هذا الجهاز قد تجيب عن الأمور الثابتة، أما المتغيرات التي تختلف من شخص لآخر سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية فهذه خارج إمكانات الجهاز، وهي أمور لازمة للفتوى.
الجهاز للمعلومات الدينية وليس للإفتاء
فيما يرى آخرون مؤيدون لفكرة الجهاز د. عكرمة صبري، والشيخ سالم الشيخي، والشيخ جمال قطب، ود. عمر القاضي أنه يمكن الانتفاع بالجهاز في الإجابة عن الأسئلة التي تمثل أحكاماً عامة وثابتة، مثل: فتاوى الميراث، والزكاة، وعدد الركعات، وكيفية الصيام، والحج... وغيرها مما قد يعرفه الإنسان من خلال الكتب، والتي لا تدخل بالمعنى الاصطلاحي في معنى الإفتاء، ولكن لا يجيب عن كل التساؤلات العامة والخاصة.
ويرى هؤلاء أن الجهاز قد يكون ناجحاً في تجميع المعلومات والفتاوى حول أي موضوع يهم المسلمين في دولة إسلامية أو غير إسلامية ، فيقتصر دوره على استخراج فتاوى العلماء المسجلة به، ولكن ليس جائزاً أن يقوم بالإفتاء، وبالتالي فمن الأفضل أن يتحول اسمه من مفتٍ إلكتروني إلي باحث إلكتروني.
أما الإفتاء فالمقصود به البحث والاستقصاء والموازنة بين جميع آراء الفقهاء والاستدلال من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح للبحث عن مخرج أو حل أزمة تواجه المسلم في دينه ودنياه ، مشيراً إلى أن الفتوى عبارة عن عملية استيعاب لمشكلة غير نصية واجهت الإنسان، وحل تلك المشكلة لا يصلح له جهاز الكمبيوتر المسمي ب "المفتي الإلكتروني".
ولعل ما قال به عدد من الفقهاء من الانتفاع بهذا الجهاز من جمع المادة العلمية والمعلومات الدينية قد يكون تصحيحاً لمسار اختراع هذا الجهاز، وتعديل الفكرة من كونه يقوم بعملية الإفتاء إلى كونه تطوراً في عالم الحاسوب لخدمة العلم الشرعي، وهي فكرة نتمنى أن يأخذ بها أصحاب الاختراع.