تابع غزوة احد
ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته
ثم اندلعت نيران المعركة ، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان ، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين ، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة ، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ، وتقدم للقتال وهو يقول :
إنَّ على أهْل اللوَاء حقــاً
أن تُخْضَبَ الصَّعْدَة أو تَنْدَقَّا
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه ، حتى وصلت إلى سرته ، فبانت رئته .
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة ، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته ، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه . وقيل : بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز ، فتقدم إليه على بن أبي طالب ، فاختلفا ضربتين ، فضربه علي فقتله .
ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح بسهم فقتله ، فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة ، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله ، ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة ، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته .
وقيل : بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضي عليه .
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد ، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار ، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين ، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شُرَحْبِيل ، فقتله على بن أبي طالب ، وقيل : حمزة بن عبد المطلب ، ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان ـ وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية ، لا عن الإسلام ـ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري ، فقتله قزمان أيضاً ، ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً .
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخرهم ، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء . فتقدم غلام لـهم حبشي ـ اسمه صُوَاب ـ فحمل اللواء ، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله ، فقد قاتل حتى قطعت يداه ، فبرك على اللواء بصدره وعنقه ، لئلا يسقط ، حتى قتل وهو يقول : اللّهم هل أعزرت ؟ يعني هل أعذرت ؟ .
وبعد أن قتل هذا الغلام ـ صُواب ـ سقط اللواء على الأرض ، ولم يبق أحد يحمله ، فبقي ساقطاً .
القتال في بقية النقاط
وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة ، وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين ، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان تتقطع أمامه السدود ، وهم يقولون : [ أمت ، أمت ] كان ذلك شعاراً لهم يوم أحد .
أقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء ، آخذاً بسيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، مصمماً على أداء حقه ، فقاتل حتى أمعن في الناس ، وجعل لا يلقي مشركاً إلا قتله ، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا .
قال الزبير بن العوام : وجدت في نفسي حين سألت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السيف فمنعنيه ، وأعطاه أبا دجانة ، وقلت ـ أي في نفسي : أنا ابن صفية عمته ، ومن قريش ، وقد قمت إليه ، فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني ، والله لأنظرن ما يصنع ؟ فاتبعته ، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه ، فقالت الأنصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت ، فخرج وهو يقول :
أنا الذي عاهـدني خليلي ** ونحـن بالسَّفْح لدى النَّخِيل
ألا أقوم الدَّهْرَ في الكَيول ** أضْرِبْ بسَيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله ، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلا ذَفَّفَ عليه ، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته ، فَعَضَّتْ بسيفه ، فضربه أبو دجانة فقتله .
ثم أمعن أبو دجانة في هدِّ الصفوف ، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش ، وهو لا يدري بها .
قال أبو دجانة : رأيت إنساناً يخْمِش الناس خمشاً شديداً ، فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولَوْل َ، فإذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن أضرب به امرأة .
وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة . قال الزبير بن العوام : رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ، ثم عدل السيف عنها ، فقلت : الله ورسوله أعلم .
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة ، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير ، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء ، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين ، حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين ، ولكن لا كما تصـرع الأبطال وجهاً لوجـه في ميدان القتـال ، وإنما كمـا يغتال الكرام في حلك الظـلام .
مصرع أسد الله حمزة بن عبد المطلب
يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب : كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم ، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر ، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير : إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق .
قال : فخرجت مع الناس ـ وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة ، قلما أخطئ بها شيئاً ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره ، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق ، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء . فوالله إني لأتهيأ له أريده ، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبد العزي ، فلما رآه حمزة قال له : هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال : فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه .
قال : وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ، فوقعت في ثُنَّتِه ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه ، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ ، وتركته وإياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتي ، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه ، ولم يكن لي بغيره حاجة ، وإنما قتلته لأعتق ، فلما قدمت مكة عتقت .
السيطرة على الموقف
وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب ، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله .
فقد قاتل يومئذ أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الله بن جحش ، وسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وسعد بن الربيع ، وأنس بن النضر وأمثالهم قتالاً فَلَّ عزائم المشركين ، وفتَّ في أعضادهم .
من أحضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرقة
وكان من الأبطال المغامرين يومئذ حَنْظَلة الغَسِيل ـ وهو حنظلة بن أبي عامر ، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق ، والذي مضي ذكره قريباً ـ كان حنظلة حديث عهد بالعُرْس ، فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته انخلع من أحضانها ، وقام من فوره إلى الجهاد ، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب ، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة ، فقد شد على أبي سفيان ، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله .
نصيب فصيلة الرماة في المعركة
وكانت للفصيلة التي عينها الرسول(صلى الله عليه وسلم) على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي ، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات ، ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر ، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين ، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة ، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث .