تشويه الشهداء
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم ، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين ، يمثلون بهم ، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج ، ويبقرون البطون . وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة
وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال ، ومدى استماتتهم في سبيل الله :
1. قال كعب بن مالك : كنت فيمن خرج من المسلمين ، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت ، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول : استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم . وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته ، فمضيت حتى كنت من ورائه ، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري ، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة ، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا ، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين ، ثم كشف المسلم عن وجهه ، وقال : كيف ترى يا كعب ؟ أنا أبو دجانة .
2. جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة ، قال أنس : لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم ، وإنهما لمشمرتان ـ أرى خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما ، تفرغانه في أفواه القوم ، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم . وقال عمر : كانت [ أم سَلِيط من نساء الأنصار ] تزفر لنا القرب يوم أحد .
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن ، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة ، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم : هاك المغزل ، وهلم سيفك . ثم سارعت إلى ساحة القتال ، فأخذت تسقي الجرحى ، فرماها حِبَّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم ، فوقعت وتكشفت ، فأغرق عدو الله في الضحك ، فشق ذلك على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له ، وقال : ( ارم به ) ، فرمى به سعد ، فوقع السهم في نحر حبان ، فوقع مستلقياً حتى تكشف ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى بدت نواجذه ، ثم قال : ( استقاد لها سعد ، أجاب الله دعوته ) .
بعد إنتهاء الرسول (صلى الله عليه وسلم)إلى الشعب
ولما استقر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في مقره من الشِّعب خرج على أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس ـ قيل : هو صخرة منقورة تسع كثيراً . وقيل : اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ليشرب منه ، فوجد له ريحاً فعافه ، فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول : "اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه " .
وقال سهل : والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ومن كان يسكب الماء ، وبما دُووِي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله ، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها ، فألصقتها فاستمسك الدم .
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبي(صلى الله عليه وسلم) ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً .
شماتة أبي سفيان
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل ، فـنادي أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه . فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجبيبوه . فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ـ وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) منعهم من الإجابة ـ ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم . فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله ، إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك .
فقال : قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني .
ثم قال : أعْلِ هُبَل.
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم): ( ألا تجيبونه ؟ ) فقالوا : فما نقول ؟ قال : ( قولوا : الله أعلى وأجل ) .
ثم قال : لنا العُزَّى ولا عزى لكم .
فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) : ( ألا تجيبونه ؟ ) قالوا : ما نقول ؟ قال : ( قولوا : الله مولانا ، ولا مولي لكم ) .
ثم قال أبو سفيان : أنْعَمْتَ فَعَال ، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال .
فأجابه عمر ، وقال : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار .
ثم قال أبو سفيان : هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( ائته فانظر ما شأنه ؟ ) فجاءه ،
فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً ؟ قال عمر : اللّهم لا . وإنه ليستمع كلامك الآن . قال : أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر .
مواعدة التلاقي في بدر
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل .
فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لرجل من أصحابه : ( قل : نعم ، هو بيننا وبينك موعد ) .
التثبت من موقف المشركين
ثم بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب ، فقال : "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ؟ وما يريدون ؟ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل ، وامْتَطُوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ، ثم لأناجزنهم ". قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووَجَّهُوا إلى مكة .
تفقد القتلى والجرحى
وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش . قال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم أحد أطلب سعد بن الربيع . فقال لي : ( إن رأيته فأقرئه مني السلام ، وقل له : يقول لك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : كيف تجدك ؟ ) قال : فجعلت أطوف بين القتلى ، فأتيته وهو بآخر رمق ، فيه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ، فقلت : يا سعد ، إن رسول الله يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أخبرني كيف تجدك ؟ فقال : وعلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) السلام ، قل له : يا رسول الله ، أجد ريح الجنة ، وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وفيكم عين تطرف ، وفاضت نفسه من وقته .
ووجدوا في الجرحى الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير ، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه ، فقالوا : إن هذا الأصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ، ثم سألوه : ما الذي جاء بك ، أحَدَبٌ على قومك ، أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله ، ثم قاتلت مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى أصابني ما ترون ، ومات من وقته ، فذكروه لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال : ( هو من أهل الجنة ) . قال أبو هريرة : ولم يُصَلِّ لله صلاة قط .
ووجدوا في الجرحى قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال ، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة ، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر ، وبشره المسلمون فقال : والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت ، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه . وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقول ـ إذا ذكر له : ( إنه من أهل النار ) ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله ، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام ، بل وفي جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة ، قال لقومه : يا معشر يهود ، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق . قالوا : إن اليوم يوم السبت . قال :لا سبت لكم . فأخذ سيفه وعدته ، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد . يصنع فيه ما شاء ، ثم غدا فقاتل حتى قتل . فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ( مُخَيرِيق خير يهود ) . _________________ يا نادما علي الذنوب اين اثر ندمك |