ذم الإنسان وأنه خلق هلوعا لا يصبر على شر ولا خير بل إذا مسه الخير منع وبخل وإذا مسه الشر جزع إلا من استثناه بعد ذلك من الناجين من خلقه فذكر منهم الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم وأن يعلمهم أنه مشاهد لاعمالهم مطلع عليها يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج فإن الحوادث مبدأها من النظر كما أن معظم النار مبدأها من مستصفر الشرر ثم تكون نظرة ثم تكون خطرة ثم خطوة ثم خطيئة ولهذا قيل من حفظ هذه الاربعة أحرز دينه اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات فينبغى للعبد أن يكون
بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة ويلازم الرباط على ثغورها فمنها يدخل عليه العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علوا تتبيرا فصل
وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة فنذكر فى كل واحد منها فصلا يليق به فأما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها وحفظها أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظره أورده موارد الهلاك وقد قال النبي ياعلى لاتتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية وفى المسند عنه النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن إمرأة أو أمرد لله أورث فى قلبه حلاوة العابدة إلى يوم القيامة هذا معنى الحديث وقال غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وقال إياكم والجلوس على الطريق قالوا يا رسول الله مجالسنا مالنا بد منها قال فإن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والنظر أصل عامة الحوادث التى تصيب الانسان ان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصبر عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع وفى هذا قيل الصبر على غض البصر أيسر من الصبر علي ألم ما بعده ولهذا قال الشاعر
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت فى قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه ... فى أعين العين موقوف علي الخطر
يسر مقلته ماضر مهجته ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر ومن آفاته أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه وهذا من أعظم العذاب أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه قال الشاعر
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لاكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وهذا البيت يحتاج إلي شرح ومراده أنك تري ما لا تصبر عن شيء منه لا تقدر عليه فان قوله لا كمله أنت قادر عليه نفى لقدرته على الكل الذى لا ينتفي إلا بنفي القدرة عن كل واحد واحد وكم من مرسل لحظاته فمن أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلا كما قيل
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيلا
ولى من أبيات
مل السلامة فاغتدت لحظاته ... وقفا علي طلل يظن جميلا
ما زال يتبع أثره لحظاته ... حتي تشحط بينهن قتيلا ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل الى المنظور إليه حتي يتبوء مكانا من قلب الناظر ولى من قصيدة
ياراميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعت الطرف يرتاد الشفاء له ... أحبس رسولك لا يأتيك بالعطب وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحا فيتبعها جرح علي جرح ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعا تكرارها ولى أيضا فى هذا المعنى
مازلت تتبع نظرة في نظرة فى نظرة ... في أثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في ال ... تحقيق تجريح علي تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا ... فالقلب منك ذبيح أي ذبيح وقد قيل إن جنس اللحظات أيسر من دوام الحسرات فصل
وأما الخطوات فشأنها أصعب فأنها مبدأ الخير والشر ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم فمن راعي خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب ومن استهان بالخطرات قادته قهرا إلى الهلكات ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير مني باطلة كسراب بقيعة يحسبه الظمأن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وأحسن الناس همة وأوضعهم نفسا من رضى من الحقائق بالأماني الكاذبة واستجلبها لنفسه وتحلى بها وهى لعمر الله رؤس من أموال المفلسين ومتاجر الباطلين وهى قوة النفس الفارغة التى قد قنعت من الوصل بزورة الخيال ومن الحقائق بكواذب الآمال كما قال الشاعر
أماني من سعد رواء علي الظما ... سقننا بها سعدا علي ظماء بردا
مني إن تكن حقا تكن أحسن المني ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا وهي أضر شىء على الإنسان وتتولد من العجز والكسل وتولد التفريط والاضاعة والحسرة والندامة والمتمني لما فاته مباشرة الحقيقة يحسبه تحت صورتها فى قلبه وعانقها وضمها إليه فقنع بوصال صورة وهمية خالية صورها فكره وذلك لا يجدي عليه شيئا وإنما مثله مثل
الجائع والظمآن يصور فى وهمه صورة الطعام والشراب وهو يأكل ويشرب والسكون به إلى ذلك واستجلابه يدل علي خساسة النفس ووضاعتها وإنما شرف النفس وزكاتها وطهارتها وعلوها بأن تنفى عنها كل خطرة لا حقيقة لها ولا ترضى أن يخطرها بباله ويأنف لنفسه منها ثم الخطرت بعد أقسام تدور على أربعة أصول خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه وخطرات يستدفع بها مضار دنياه وخطرات يسجلب بها مصالح آخرته وخطرات يستدفع بها مضار آخرته فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه فى هذه الاقسام الأربعة فإذا انحصرت له فيها فما أمكن اجتماعه منها لم يتركه لغيره وإذا تزاحمت عليه الخطرات كتزاحم متعلقاتها قدم الأهم فالاهم الذي يحشى فوته وأخر الذي ليس باهم ولا يخاف فوته بقى قسمان آخران أحدهما مهم لا يفوت والثاني غير مهم ولكنه يفوت ففي كل منهما يدعو إلى تقديمه فهنا يقع التردد والحيرة فيه فإن قدم الأهم خشى فوات ما دونه وإن قدم ما دونه فإنه الاشتغال به عن المهم وذلك بأن يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما ولا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر فهو موضع إستعمال العقل والفقه والمعرفة ومن ههنا ارتفع من ارتفع وأنجح من أنجح وخاب من خاب فأكثر من ترى ممن يعظم عقله ومعرفته يؤثر غير المهم الذي لا يفوت علي المهم الذي يفوت ولا تجد أحدا يسلم من ذلك ولكن مستقل ومستكثر والتحيكم فى هذا الباب للقاعدة الكبرى التى يكون عليها مدار الشرع والقدر وإليها يرجح الخلق والأمر وهى إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما وإن فاتت المصلحة التي هى دونها والدخول فى أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منهما فتفوت مصلحة لتحصل ما هو وأكبر منهما ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها فخطرات العاقل وفكسره لا يتجاوز ذلك وبذلك جاءت الشرائع ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على ذلك وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة فما كان لله فهو أنواع الأول الفكرة فى آياته المنزلة وتعقلها وفهمها وفهم مراده منها ولذلك أنزلها الله تعالى إلا لمجرد تلاوتها بل التلاوة وسيلة قال بعض السلف أنزل القرآن ليعمل به فأتخذوا تلاوته عملا الثاني الفكرة فى آياته المشهودة والأعتبار بها والأستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته واحسانه وبره وجوده وقد حث الله سبحانه عباده علي التفكر فى آياته وتدبرها وتعقلها وذم الغافل عن ذلك الثالث الفكرة فى الآية وإحسانه وإنعامه على خلقه بأصناف النعم وسعة مغفرته ورحمته وحلمه وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه ودوام الفكرة فى ذلك مع الذكر يصبغ القلب فى المعرفة والمحبة صبغة تامة الرابع الفكرة فى عيوب النفس وآفاتها وفى عيوب العمل وهذه الفكرة عظيمة النفع وهذا باب
كل خير وتأثيرها فى كسر النفس الامارة بالسوء وحتى كسرت عاشت النفس المطمئنة وانتعشت وصار الحكم لها فحى القلب ودارت كلمته فى مملكته وبث أمراءه وجنوده فى مصالحه الخامس الفكرة فى واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه فالعارف ابن وقته فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدا قال الشافعي رضى الله عنه صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين أحدهما قولهم الوقت سيف فإن لم تقطعه قطعك وذكر الكلمة الآخرى ونفسك إن أشغلتها بالحق وإلا اشتغلتك بالباطل فوقت الإنسان هو عمره فى الحقيقة وهو مادة حيا الأبدية فى النعيم المقيم ومادة المعيشة الضنك فى العذاب الأليم وهو يمر أسرع من مر السحاب فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم فإذا قطع وقته فى الغفلة والشهوة والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه بالنوم والبطالة فموت هذا خيرا له من حياته وإذا كان العبد وهو فى الصلاة ليس له من صلاته إلا ما عقل منها فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وله وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر فأما وساوس شيطانية وإما أماني باطلة وخدع كاذبة بمنزلة خواطر المصابين فى عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق
إن كان منزلتي فى الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامى
أمنية ظفرت نفسى بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام وأعلم أن ورود الخاطر لا يضر وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته فالخاطر كالمار على الطريق فإن لم تستدعه وتتركه مرو انصرف عنك وإن استدعيته سحرك بحديثه وخدعه وغروره وهو أخف شىء على النفس الفارغة بالباطلة وأثقل شىء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة وقد ركب الله سبحانه فى الإنسان نفسين نفسا أمارة ونفسا مطمئنة وهما متعاديتان فكلما خف علي هذه ثقل علي هذه وكلما التذت به هذه تألمت به الاخري فليس علي النفس الامارة أشق من العمل لله وايثار رضاه على هواها وليس لها أنفع منه وكذا ليس علي النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله وأجابة داعي الهوي وليس عليها شيء أضر منه والملك مع هذه عن يمين القلب والشيطان مع تلك عن ميسرة القلب والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلا أن تستوفى أجلها من الدنيا والباطل كله يتخير مع الشيطان والإمارة والحق كله يتحيز مع الملك والمطمئنة والحرب دول وسجل والنصر مع الصبر ومن صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العافية في الدنيا والآخرة وقد حكم الله تعالى حكما لا يبدل أبدا أن
العاقبة للتقوي والعاقبة للمتقين فالقلب لوح فارغ والخواطر نقوش تنقش فيه فكيف يليق بالعاقل أن يكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع وأماني باطلة وسراب لا حقيقة له فأي حكمة وعلم وهدي ينتقش مع هذه النقوش وإذا أراد أن ينتقش ذلك فى لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع فى محل مشغول بكتابة مالا منفعة فيه فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الردية لم يستقر فيه الخواطر النافعة فإنها لا تستقر إلا فى محل فارغ كما قيل