أصُــول الفِـقْـه
تعريفه:
أصول الفقه يعرّف باعتبارين:
الأول: باعتبار مفردَيهِ؛ أي: باعتبار كلمة أصول، وكلمة فقه.
فالأصول: جمع أصل، وهو ما يبنى عليه غيره، ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرع منه أغصانها قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم:24] .
والفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طـه:27].
واصطلاحًا: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية.
فالمراد بقولنا: (معرفة)؛ العلم والظن؛ لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينيًّا، وقد يكون ظنيًّا، كما في كثير من مسائل الفقه.
والمراد بقولنا: (الأحكام الشرعية)؛ الأحكام المتلقاة من الشرع؛ كالوجوب والتحريم، فخرج به الأحكام العقلية؛ كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء والأحكام العادية؛ كمعرفة نزول الطل في الليلة الشاتية إذا كان الجو صحوًا.
والمراد بقولنا: (العملية)؛ ما لا يتعلق بالاعتقاد؛ كالصلاة والزكاة، فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد؛ كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، فلا يسمّى ذلك فقهًا في الاصطلاح.
والمراد بقولنا: (بأدلتها التفصيلية)؛ أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية؛ فخرج به أصول الفقه؛ لأن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية.
الثاني: باعتبار كونه؛ لقبًا لهذا الفن المعين، فيعرف بأنه: علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.
فالمراد بقولنا: (الإجمالية)؛ القواعد العامة مثل قولهم: الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصحة تقتضي النفوذ، فخرج به الأدلة التفصيلية فلا تذكر في أصول الفقه إلا على سبيل التمثيل للقاعدة.
والمراد بقولنا: (وكيفية الاستفادة منها)؛ معرفة كيف يستفيد الأحكام من أدلتها بدراسة أحكام الألفاظ ودلالاتها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ وغير ذلك، فإنَّه بإدراكه يستفيد من أدلة الفقه أحكامها.
والمراد بقولنا: (وحال المستفيد)؛ معرفة حال المستفيد وهو المجتهد، سمي مستفيدًا؛ لأنه يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها لبلوغه مرتبة الاجتهاد، فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه.
فائدة أصول الفقه:
إن أصول الفقه علم جليل القدر، بالغ الأهمية، غزير الفائدة، فائدته: التَّمَكُّن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة.
وأول من جمعه كفنٍ مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله، ثم تابعه العلماء في ذلك، فألفوا فيه التآليف المتنوعة، ما بين منثور، ومنظوم، ومختصر، ومبسوط حتى صار فنًّا مستقلًّا، له كيانه، ومميزاته.
***
الأحكـــــام
الأحكام: جمع حُكم وهو لغةً: القضاء.
واصطلاحًا: ما اقْتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب، أو تخيير، أو وضع.
فالمراد بقولنا: (خطاب الشرع)؛ الكتاب والسنة.
والمراد بقولنا: (المتعلق بأفعال المكلفين)؛ ما تعلق بأعمالهم سواء كانت قولًا أم فعلًا، إيجادًا أم تركًا.
فخرج به ما تعلق بالاعتقاد فلا يسمى حكمًا بهذا الاصطلاح.
والمراد بقولنا: (المكلفين)؛ ما من شأنهم التكليف فيشمل الصغير والمجنون.
والمراد بقولنا: (من طلب)؛ الأمر والنهي سواء على سبيل الإلزام، أو الأفضلية.
والمراد بقولنا: (أو تخيير)؛ المباح.
والمراد بقولنا: (أو وضع)؛ الصحيح والفاسد ونحوهما مما وضعه الشارع من علامات وأوصاف للنفوذ والإلغاء.
أقسام الأحكام الشرعية:
تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين: تكليفية ووضعية.
فالتكليفية خمسة: الواجب والمندوب والمحرَّم والمكروه والمباح.
1 - فالواجب لغة: الساقط واللازم.
واصطلاحًا: ما أمر به الشارع على وجه الإلزام؛ كالصلوات الخمس.
فخرج بقولنا: (ما أمر به الشارع)؛ المحرم والمكروه والمباح.
وخرج بقولنا: (على وجه الإلزام)؛ المندوب.
والواجب يثاب فاعله امتثالًا، ويستحق العقاب تاركُه.
ويُسمَّى: فرضًا وفريضة وحتمًا ولازمًا.
2 - والمندوب لغة: المدعوُّ
واصطلاحًا: ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام؛ كالرواتب.
فخرج بقولنا: (ما أمر به الشارع)؛ المحرم والمكروه والمباح.
وخرج بقولنا: (لا على وجه الإلزام)؛ الواجب.
والمندوب يثاب فاعله امتثالًا، ولا يعاقب تاركه.
ويُسمَّى سنة ومسنونًا ومستحبًا ونفلًا.
3 - والمحرم لغة: الممنوع
واصطلاحًا: ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك؛ كعقوق الوالدين.
فخرج بقولنا: (ما نهى عنه الشارع)؛ الواجب والمندوب والمباح.
وخرج بقولنا: (على وجه الإلزام بالترك)؛ المكروه.
والمحرم يثاب تاركه امتثالًا، ويستحق العقاب فاعله.
ويسمى: محظورًا أو ممنوعًا.
4 - والمكروه لغة: المبغض
واصطلاحًا: ما نهى عنه الشارع لا على وجه الإلزام بالترك؛ كالأخذ بالشمال والإعطاء بها.
فخرج بقولنا: (ما نهى عنه الشارع)؛ الواجب والمندوب والمباح.
وخرج بقولنا: (لا على وجه الإلزام بالترك)؛ المحرم.
والمكروه: يثاب تاركه امتثالًا، ولا يعاقب فاعله.
5 - والمباح لغة: المعلن والمأذون فيه
واصطلاحًا: ما لا يتعلق به أمر، ولا نهي لذاته؛ كالأكل في رمضان ليلًا.
فخرج بقولنا: (ما لا يتعلق به أمر)؛ الواجب والمندوب.
وخرج بقولنا: (ولا نهي)؛ المحرم والمكروه.
وخرج بقولنا: (لذاته)؛ ما لو تعلق به أمر لكونه وسيلة لمأمور به، أو نهي لكونه وسيلة لمنهي عنه، فإن له حكم ما كان وسيلة له من مأمور، أو منهي، ولا يخرجه ذلك عن كونه مباحًا في الأصل.
والمباح ما دام على وصف الإباحة، فإنه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب.
ويسمى: حلالًا وجائزًا.
الأحكام الوضعية:
الأحكام الوضعية: ما وضعه الشارع من أمارات، لثبوت أو انتفاء، أو نفوذ، أو إلغاء.
ومنها: الصحة والفساد.
1 - فالصحيح لغة: السليم من المرض.
واصطلاحًا: ما ترتبت آثار فعله عليه عبادةً كان أم عقدًا.
فالصحيح من العبادات: ما برئت به الذمة، وسقط به الطلب.
والصحيح من العقود: ما ترتبت آثاره على وجوده؛ كترتب الملك على عقد البيع مثلًا.
ولا يكون الشيء صحيحًا إلا بتمام شروطه وانتفاء موانعه.
مثال ذلك في العبادات: أن يأتي بالصلاة في وقتها تامة شروطها وأركانها وواجباتها.
ومثال ذلك في العقود: أن يعقد بيعًا تامة شروطه المعروفة مع انتفاء موانعه.
فإن فُقِد شرطٌ من الشروط، أو وُجِد مانع من الموانع امتنعت الصحة.
مثال فَقْد الشرط في العبادة: أن يصلي بلا طهارة.
ومثال فقد الشرط في العقد: أن يبيع ما لا يملك.
ومثال وجود المانع في العبادة: أن يتطوع بنفل مطلق في وقت النهي.
ومثال وجود المانع في العقد: أن يبيع من تلزمه الجمعة شيئًا، بعد ندائها الثاني على وجه لا يباح.
2 - والفاسد لغة: الذاهب ضياعًا وخسرًا
واصطلاحًا: ما لا تترتب آثار فعله عليه عبادةً كان أم عقدًا.
فالفاسد من العبادات: ما لا تبرأ به الذمة، ولا يسقط به الطلب؛ كالصلاة قبل وقتها.
والفاسد من العقود: ما لا تترتب آثاره عليه؛ كبيع المجهول.
وكل فاسد من العبادات والعقود والشروط فإنه محرّم؛ لأن ذلك مِنْ تعدِّي حدود الله، واتخاذِ آياته هزؤًا، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنكر على من اشترطوا شروطًا ليست في كتاب الله.
والفاسد والباطل بمعنى واحد إلا في موضعين:
الأول: في الإحرام؛ فرّقوا بينهما بأن الفاسد ما وطئ فيه المُحرمِ قبل التحلل الأول، والباطل ما ارتد فيه عن الإسلام.
الثاني: في النكاح؛ فرقوا بينهما بأن الفاسد ما اختلف العلماء في فساده كالنكاح بلا ولي، والباطل ما أجمعوا على بطلانه كنكاح المعتدة.
***
العِلم
تعريفه:
العلم: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا؛ كإدراك أن الكل أكبر من الجزء، وأن النية شرط في العبادة.
فخرج بقولنا: (إدراك الشيء)؛ عدم الإدراك بالكلية ويسمّى (الجهل البسيط) ، مثل أن يُسأل: متى كانت غزوة بدر؟ فيقول: لا أدري.
وخرج بقولنا: (على ما هو عليه)؛ إدراكه على وجه يخالف ما هو عليه، ويسمّى (الجهل المركب) ، مثل أن يُسأل: متى كانت غزوة بدر؟ فيقول: في السنة الثالثة من الهجرة.
وخرج بقولنا: (إدراكًا جازمًا)؛ إدراك الشيء إدراكًا غير جازم، بحيث يحتمل عنده أن يكون على غير الوجه الذي أدركه، فلا يسمى ذلك علمًا. ثم إن ترجح عنده أحد الاحتمالين فالراجح ظن والمرجوح وَهم، وإن تساوى الأمران فهو شك.
وبهذا تبيّن أن تعلق الإدراك بالأشياء كالآتي:
1 - علم؛ وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا.
2 - جهل بسيط؛ وهو عدم الإدراك بالكلية.
3 - جهل مركب؛ وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.
4 - ظن، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح.
5 - وهم، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ راجح.
6 - شك، وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ مساو.
أقسام العلم:
ينقسم العلم إلى قسمين: ضروري ونظري
1 - فالضروري: ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريًّا، بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال؛ كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وأن النار حارة، وأن محمدًا رسول الله.
2 - والنظري: ما يحتاج إلى نظر واستدلال؛ كالعلم بوجوب النية في الصلاة.
***
الكـــــــلام
تعريفه:
الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى.
واصطلاحًا: اللفظ المفيد مثل: الله ربنا ومحمد نبينا.
وأقل ما يتألف منه الكلام اسمان، أو فعل واسم.
مثال الأول: محمد رسول الله، ومثال الثاني: استقام محمد.
وواحد الكلام كلمة وهي: اللفظ الموضوع لمعنى مفرد وهي إما اسم، أو فعل، أو حرف.
أ - فالاسم: ما دل على معنى في نفسه من غير إشعار بزمن.
وهو ثلاثة أنواع:
الأول: ما يفيد العموم كالأسماء الموصولة.
الثاني: ما يفيد الإطلاق كالنكرة في سياق الإثبات.
الثالث: ما يفيد الخصوص كالأعلام.
ب - والفعل: ما دل على معنى في نفسه، وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة الثلاثة.
وهو إما ماضٍ كـ (فَهِمَ)، أو مضارع كــ (يَفْهَمُ)، أو أمر كَــ (اِفْهَمْ).
والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق فلا عموم له.
ج- والحرف: ما دل على معنى في غيره، ومنه:
1 - الواو: وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، ولا تقتضي الترتيب، ولا تنافيه إلا بدليل.
2 - الفاء: وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم مع الترتيب والتعقيب، وتأتي سببية فتفيد التعليل.
3 - اللام الجارّة. ولها معانٍ منها: التعليل والتمليك والإباحة.
4 - على الجارّة. ولها معانٍ منها: الوجوب.
أقسام الكلام:
ينقسم الكلام باعتبار إمكان وصفه بالصدق وعدمه إلى قسمين: خبر وإنشاء.
1 - فالخبر: ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته.
فخرج بقولنا: (ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب)؛ الإنشاء؛ لأنه لا يمكن فيه ذلك، فإن مدلوله ليس مخبرًا عنه حتى يمكن أن يقال: إنه صدق أو كذب.
وخرج بقولنا: (لذاته)؛ الخبر الذي لا يحتمل الصدق، أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به، وذلك أن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام:
الأول - ما لا يمكن وصفه بالكذب؛ كخبر الله ورسوله الثابت عنه.
الثاني - ما لا يمكن وصفه بالصدق؛ كالخبر عن المستحيل شرعًا أو عقلًا، فالأول: كخبر مدعي الرسالة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والثاني: كالخبر عن اجتماع النقيضين كالحركة والسكون في عين واحدة في زمن واحد.
الثالث: ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب إما على السواء، أو مع رجحان أحدهما، كإخبار شخص عن قدوم غائب ونحوه.
2 - والإنشاء: ما لا يمكن أن يوصف بالصدق والكذب، ومنه الأمر والنهي. كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: من الآية36] وقد يكون الكلام خبرًا إنشاء باعتبارين؛ كصيغ العقود اللفظية مثل: بعت وقبلت، فإنها باعتبار دلالتها على ما في نفس العاقد خبر، وباعتبار ترتب العقد عليها إنشاء.
وقد يأتي الكلام بصورة الخبر والمراد به الإنشاء وبالعكس لفائدة.
مثال الأول: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: من الآية228] فقوله: يتربصن بصورة الخبر والمراد بها الأمر، وفائدة ذلك تأكيد فعل المأمور به، حتى كأنه أمر واقع، يتحدث عنه كصفة من صفات المأمور.
ومثال العكس: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: من الآية12] فقوله: (ولنحمل) بصورة الأمر والمراد بها الخبر، أي: ونحن نحمل. وفائدة ذلك تنزيل الشيء المخبر عنه منزلة المفروض الملزم به