تابع غزوة الاحزاب
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابر قال : إنا يوم خندق نحفر ، فعرضت كُدْية شديدة ، فجاءوا النبي(صلى الله عليه وسلم) فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق . فقال : ( أنا نازل ) ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ـ ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي(صلى الله عليه وسلم) المِعْوَل ، فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم ، أي صار رملاً لا يتماسك .
وقال البراء : لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فجاءة وأخذ المعول فقال : " بسم الله " ، ثم ضرب ضربة ، وقال : " الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة "، ثم ضرب الثانية فقطع آخر ، فقال : " الله أكبر ، أعطيت فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن " ، ثم ضرب الثالثة ، فقال : " بسم الله " ، فقطع بقية الحجر ، فقال : "الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني " .وروى ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه .
ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال ، وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير ، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال ، اتخذ الخندق في هذا الجانب .
وواصل المسلمون عملهم في حفره ، فكانوا يحفرونه طول النهار ، ويرجعون إلى أهليهم في المساء ، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة ، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة .وأقبلت قريش في أربعة آلاف ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة ، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد .
"وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا " [الأحزاب: 22] .
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا "[ الأحزاب: 12] .
وخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به ، والخندق بينهم وبين الكفار . وكان شعارهم : [ حم لا ينصرون ] ، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة .
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة ، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها ، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين ، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم ، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب ، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً .
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً ، يتحسسون نقطة ضعيفة ، لينحدروا منها ، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين ، يرشقونهم بالنبل ، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه ، ولا يستطيعوا أن يقتحموه ، أو يهيلوا عليه التراب ، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور .
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوى في ترقب نتائج الحصار ، فإن ذلك لم يكن من شيمهم ، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم ، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه ، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، ودعا عمرو إلى المبارزة ، فانتدب له علي بن أبي طالب ، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه ، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين ، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو .
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق ، أو لبناء الطرق فيها ، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة ، ورشقوهم بالنبل ، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم .
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه : أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق ، فجعل يسب كفار قريش . فقال : يا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) : ( وأنا والله ما صليتها ) ، فنزلنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بُطْحَان ، فتوضأ للصلاة ، وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب .
وقد استاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين ، ففي البخاري عن على عن النبي(صلى الله عليه وسلم) أنه قال يوم الخندق : " ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " .
وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً . قال النووي : وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام ، وهذا في بعضها . انتهى .
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين ، والمكافحة المتواصلة من المسلمين ، دامت أياماً ، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية ، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة .
وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين ، يعدون على الأصابع : ستة من المسلمين ، وعشرة من المشركين ، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف .
وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكْحَل ، رماه رجل من قريش يقال له : حَبَّان بن العَرِقَة ، فدعا سعد : اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه ، اللّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك ، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها . وقال في آخر دعائه : ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة .
وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها ، تريد إيصال السم داخل أجسادهم : انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتى كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم ، وكان قد عاقد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على أن ينصره إذا أصابته حرب ، كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه ، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه ، فقال حيي : إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة ، وبغطفان على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم بذَنَب نَقْمَي إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه