أَيُّهما الَّذي قاد إلى الآخر؟ العولمة أَم المعلوماتيَّة؟
لقد تغيَّرت معالم الحياة ومعطياتها، وستتغيَّر كثيراً جدًّا جدًّا عمَّا هي عليه الآن، وأَبسط ما يمكن الحديث فيه الآن هو أَنَّ مقولة: العالم قريةٌ صغيرةٌ الَّذي قيل منذ زمن بعيدٍ باتت باهتةً إذا ما قارنا زمن قولها بالحاضر والمستقبل، ولعلَّنا لا نفي العصر حقَّه إذا قلنا الآن: العالم بين كفِّيك، فأَنت تستطيع أَن تقف على ما يدور في أَي بقعةٍ من العالم في لحظته مع التَّحليلات المختلفة من كلِّ أَماكن العالم ولغاته. تستطيع أَن تعرف حركة الطَّائرات والقطارات والحافلات، والملغى من الرَّحلات، والَّتي يمكنك الحجز فيها، والَّتي لا تستطيع السَّفر فيها، وطاقم الرِّحلة، والرُّكَّاب فيها، دون أَن تغيِّر كيفيَّة قعودك. تستطيع أَن تعرف أَسماء رفقاء ابنك في المدرسة، ووضعه وعلاماته وسلوكه بضغط أَزرار قليلة. وإذا أَردت أَن تقايض أَو تشتري؛ بيتاً، سيَّارةً، محلاًّ، حاسباً، تذكرة سفرٍ أَو مسرحٍ ... أَو أَيَّ شيءٍ، ففي امكانك معرفة المناسب والممكن دون أَدنى عناء، بل يمكنك أَن تخوِّل الحاسب بعقد الصَّفقة عنك. وبذلك تكون قد حُلَّت إحدى أَهمِّ المشكلات الاقتصاديَّة وهي العلاقة بين المنتج والمستهلك على النَّحو الذَّي طرحه آدم سميث ـ
A. Smeth
]إذ إنَّه «لو علم كلُّ مشترٍ أَسعار البائع، ولو عرف كلُّ بائعٍ المبلغ الَّذي يستطيع أَن يدفعه المشتري للسِّلعة، فإنَّ كلا الطَّرفين سيكون قادراً على اتِّخاذ قرار يستندُ إلى المعلومات الَّتي حصل عليها. ولكن حتَّى الآن ليست للبائعين أَو المشترين معلومات عن بعضهم البعض
ويتحدَّثُ بيل جيتس ـ
]Bill Gates
]عن المستقبل فيقول: «سيكون هناك الفيديو عند الطَّلب؛ الَّذي سيكون تطبيقاً من تطبيقات الطَّريق السَّريع. كما سيرتبط التِّلفزيون بالحاسب الآلي ويقدِّم تسهيلات كثيرةً مثل البريد الإلكتروني والأَلعاب وأَعمال المصارف. ولن يكون للتِّلفزيون لوحة مفاتيح مثل الحاسب، ولكنَّ الإلكترونيَّات الدَّاخليَّة أَو المرتبطة به سوف تجعله من النَّاحية الهندسية جاهزاً ليصبح حاسباً مثل الحاسب الشَّخصي. وإذا كنت تحمل مفاتيح وبطاقة شخصيَّة ومبلغاً من المال وساعة وبطاقات ائتمان أَو [أَوامر صرف سياحيَّة ـ
]Travel Cheques
]ودفتر [هواتف] و[آلة تصوير] وجهاز تسجيل وهاتفاً محمولاً وبوصلة وآلة حاسبة و[بطاقة] ممغنطة لاستخدامها في عمل مكالمات هاتفيَّة وصفَّارة إنذار. ففي المستقبل سوف يجمع كلُّ ذلك في تطبيق واحدٍ يُسمَّى الحافظة الشَّخصيَّة، وهي بحجم حافظة النُّقود، وتقوم بإرسال الرَّسائل والمواعيد، وتمكِّنك من إرسال البريد الإلكتروني والنَّاسوخ ـ الفاكس، وتحيطك علماً بأَخبار البورصة والطَّقس وتقوم بأَداء الأَلعاب المعقَّدة، ويمكنك أَن تسجِّلَ عليها ملاحظاتك في الاجتماعات، وتراجع ارتباطاتك، وتستدعي المعلومات الَّتي قمت بتخزينها، وتختار أَيَّ صورةٍ لأَحد أَبنائك، وقد تساعد على التَّحقُّق من زيف أَيَّة ورقة نقديَّة لديك()، وهناك الكثير من التَّطبيقات الأُخرى المتاحة
انطلاقاً من المعطيات السَّابقة خلص الجابري إلى الحكم بأَنَّ « العولمة من إفرازات المعلوماتيَّة»(). بينما ذهب ميشيل إدَّه إلى أَنَّه « لا يمكن تصوُّر العولمة بمعزلٍ عن هذه الثَّورة [التِّقانيَّة]، أَي المعلوماتيَّة الَّتي تتجلَّى خاصَّةً بما يسمَّى الاتِّصاليَّة»(). وذهب برهان غليون إلى أَنَّ العلاقة بين العولمة والمعلوماتيَّة متداخلة بحيث قاد كلٌّ منهما إلى الآخر، فالمقصود بالعولمة، عنده، هو «الدُّخول، بسبب تطوُّر الثَّورة المعـلوماتيَّة والتِّقنيَّة والاقتصاديَّة معاً في طورٍ من التَّطوُّر الحضاري يصبحُ فيه مصيرُ الإنسانيَّة موحَّداً أَو نازعاً للتَّوحُّد»()، وليعطي العولمة بذلك معنًى وبعداً شموليًّا يطوي تحت جناحيه: الاقتصاد والتِّقانة والمعلوماتيَّة بآن معاً. وبهذا المعنى، تقريباً، يتأطَّرُ الخطاب الغربيُّ لمنظِّري العولمة الَّذين يحاولون إلباسها ثوبا شفيفاً من الرِّقـَّة والوداعة والنـزوع الإنسانيِّ الطَّامح إلى الوحدة الإنسانيَّة والتَّآلف بين مختلف الأُمم على نحوٍ مشابهٍ، إلى حدٍّ ما، للنـزعة الأُمميَّة الَّتي كانت تنادي بها الشَّيوعيَّة في غابر أَيَّامها
ولا يبتعد أَلفين توفلر عن هذا الفهم فهو يرى أَنَّ: « أَهمُّ سمات الموجة الثَّالثة: بناءُ مجتمعات تفتيت الكتل، وإنشاء نظامٍ متقدِّمٍ للمعلومات يعتمدُ أَساساً على التَّطُّور الهائل في الحاسب الآلي وأَنظمة الاتِّصالات، والمواد الجديدة، والتَّطوُّر في إنتاج الطَّاقة، والدِّراية الفنِّيـَّة المتقدِّمة، والمعرفة الَّتي تعمل على توفير الوقت، والمكان؛ سواء في أَماكن التَّخزين أَو وسائل النَّقل، وفي سرعة التَّوزيع، والاتِّصال بين المنتج والمستهلك، هذه المعرفة الَّتي تقودها العقول البشريَّة، وهكذا يحلُّ رأس المال البشريِّ محلَّ رأس المال [المصرفيِّ
ومهما يكن من أَمر فإنَّ الحقيقة النَّاصعة أَمامنا، وهي ليست بالحقيقة الجديدة، وإنَّما الجديد فيما نمطها وبنيتها؛ تتجسَّد في أَنَّ المعلومات تلعب دوراً مهمًّا وحاسما في بقاء أَيِّ شركة واستمرارها وتطوُّرها، بل إنَّ مدى امتلاك المعلومات هو الَّذي سيحدِّد مكانة الشَّركة ومستواها، وفي ذلك يقول ألفين توفلر: «بناءً على كثافة المعلومات الَّتي تملكها الشَّركة يمكن تقسيم الشَّركات إلى ما يمكن أَن نطلق عليه: حاجباً مرتفعاً، وحاجباً متوسِّطاً، وحاجباً منخفضاً»(). وانطلاقا من هذه الحقيقة فَهِمَ بيل جيتس ـ
Bill Gates
حلمَ آدم سميث في مثاليَّة اقتصاد السُّوق على نحو معاصرٍ تمثَّل بوجوب « وجود حاسب على كلِّ مكتب وفي كلِّ بيت لتغيير مجرى حياة الأَفراد»(). وهذا ما تتجلَّى آثاره بشكلٍ واضحٍ صارخٍ على أَرض الواقع، وبخطى مطَّرِّدة، بل بوثبات يتزايدُ بون ابتعادها عن بعضها اتِّساعاً، الأَمر الَّذي يجعلنا غير قادرين على إنكار حقيقة أَنَّ العولمة أصبحت واقعاً لا مفرَّ منه، وأَنَّ «واحداً أَساسيًّا من العناصر الَّتي تضفي على العولمة طابعاً موضوعيًّا من الاستمراريَّة والشُّموليَّة يستحيلُ إبطاله أَو إلغاؤه برغبةٍ ذاتيَّةٍ، كونها نتاج التَّقدُّم العلميِّ و[التِّقانيِّ] العاصفِ، المذهل، لقدرته ووتائر سرعته