بين رجل وامرأة.
(1)دلف الرجل، من باب عمارة عملاقة. لمّا تستكمل بعد. كان قد أجهده المشي بين العمارات المماثلة.
"أيعقل أن يكون ((مقرها)) هنا؟ وتناول ورقة من جيبه –((العنوان: جنوب الأوتستراد. محضر رقم 1054 -طابق 12))."
وليثبت ((المعلومة)) التي قرأها. تأكد من رقم المحضر، المدون في لوحة رخامية، فوق المدخل.
((صحيح)). /نطق. ثم ولج دهليز الطابق الأرضي. وجد في الصدر مصعداً مخصصاً للطابق الثاني عشر فقط. ضغط الزر الكهربائي فارتفع به المصعد، وصار كمن يركب في كبسولة فضائية.
في ردهة الطابق /12/ الخارجية، وجد واجهة أنيقة ولوحة مزخرفة، فوق باب كبير: "دار وحيدة للنشر". إذن ليضغط زراً كهربائياً آخر. انفتح الباب العظيم بطريقة آلية. دخل، وكأنه عتال ينوء بحمل أبهظه. بل لا فرق؛ فحقيبته ممتلئة، وبذلته عتيقة.
أرشده بواب ذو بذلة رسمية –من نوع طقم –إلى أين يجب أن يتجه؟
من نافذة البهو الداخلي المطلة. رأى العالم تحته غائراً إلى أسفل، وصغيراً. ابتسم في سره: "أقف هنا على شاطئ الكون".
في أثناء عبوره الممر الرئيس. شاهد الغرف على الجانبين مملوءة بالآلات الكاتبة، والكمبيوترات. وخلفها العمال من كلا الجنسين، يحدقون إلى الشاشات الصغيرة، والأرقام.
كانت أصابعهم تشتغل وحدها ودون علم منهم من شدة السرعة. أجهزة ثانية مستقلة!
أدهشته هذا الدار بضخامتها، وشعر برائحة الثراء الباذخ، تعبق في خياشيمه من كل جانب.
على كل، ظل متمسكاً –في نفسه –بهذه العظمة. وأخذه –بالمقابل –إشفاق على هؤلاء المحررين الذين ينضدون الكتب ولا يقرؤونها. ثم فطن: "لو فعلوا ذلك لقل الإنتاج. وهذا الأمر لا يتفق وخطة الدار....". ثم قطع حديثه مع ذاته. وتابع يهدج في الممر الطويل إلى أن وصل نهايته. حيث يوجد باب خشبي، في غاية الصنع والإتقان. ضغط زراً موجوداً على الضرفة. فانفتح آلياً. وبعد أن عبره انغلق بالحركة نفسها. ((أين أنا؟ في أحد قصور الجنة))! /لهج الرجل في داخله. ثم أكدت له الغرفة الوثيرة المجهزة بأحدث طرز الأثاث المبتكرة، من قبل مصممي (الديكورات)، حقيقة تساؤله.
المرأة خلف الطاولة الثمينة والمزخرفة بنقوش من الذهب والأصداف، كانت متوسطة العمر.
نيّفت على الأربعين. ولكن ما زالت بقايا جمال صباها الفتان بادية في معظم ملامح وجهها.
يجلل رأسها شعر مصبوغ بالأشقر. ((المزين)) الذي (ماشه)، صففه بعناية. وأخرجه بعمارة هندسية، تشبه هرماً صغيراً
لم يفسّر الرجل السبب لما هذه المرأة الباهرة مقلته طويلاً، حين دخل عليها، كأن استوطن عينيها منذ زمن. ولم تقل له: "تفضل اجلس"، بعد.
حقيقة المرأة من جهتها. لا تدري ماذا أصابها؟ شحطت سارحة صوب البعيد البعيد. مرسلة شعاعاً خفياً من ذهنها تسبر به السنين الغابرة.
كأن الزمن نفسه قد فقد ذاكرته لديها. فمن أين جاءها هذا الرجل."أيكون هو"؟ /تمتمت في داخلها.
الرجل صبّر نفسه على الانتظار. وظل واقفاً. كان كمن يقف أمام تمثال حجري نصفي لامرأة من نوع (بورتريه). شغل باله بزينة هذه المرأة الساحرة، وقيافتها العصرية.
((كم اختلفت أمور نساء اليوم عن أمور نساء أيام زمان))؟ /همس في ذاته، واستراح دون إذن على أريكة لم يجلس على مثلها طوال حياته. كان مكدوداً كمن يجتر مرضاً مزمناً.
انتبهت المرأة لهذه الإهانة، وسددت نظرة نارية. اخترقته بوحشية. ولتنقلب عيناها مرة في حياتها، إلى رصاصتين. أقسمت في داخلها أنها عرفت الرجل. كان ثمة نور شاحب يلتمع في داخل عينيه، يجوز لم تجرِ الأمور معه كما يرغب... ثم طن في أذنيه: "ماذا تريد أيها السيد"؟
النظرة واللهجة اللتان عومل بهما هذا ((السيد)). جعلتاه يتأخر في الجواب.
*لم تسكت؟ أجبني.
*يوجد في حقيبتي مخطوطات. منها مخطوطة رواية.
*هات مخطوطة الرواية.
بعد أن قرأت الاسم. ارتسم على وجهها خريطة غضب حاد. ماذا هي فاعلة، وكيف تتصرف، أتصرخ وتولول؟ أتضرب الطاولة أمامها؟ تشد شعرها، وتبطل تسريحتها؟ أم تنادي العمال....؟
وبعد لحظات غليان مريرة. لا تدري لحسن الحظ كيف استعادت أعصابها: "اترك المخطوطة حتى يوم غد.
من أجل النظر فيها"
-يعني... أنت...؟
قاطعته بسرعة: لست أنا المديرة أنا السكرتيرة.
المرأة ظل صدرها يعلو ويهبط مما اشتعلت به. والرجل خرج بهدوء ورتابة. لم يبال بها. أو لم يكتشف فيها روحها المفزوعة. بل أخذ يفكر في شخصها: "هذه المرأة تحفة فنية من النساء. لم أرَ مثل معاني جمالها من قبل" ...
بل كرر إعجابه: "إذا كانت السكرتيرة هكذا، فكيف ستكون مديرتها؟ لكم هذه الدار مترفة في نسائها. وفي أثاثها وإمكاناتها" !
ثم افتر فمه بشبه ابتسامة: "إذا ما وافقت المديرة غداً على مخطوطة روايتي. فنشرها عن طريق دارها سيكون شهادة براءة وتقدير لها... "/واستمر يوقظ فصولاً رائعة في مستقبل روايته.
والمرأة. اعتكفت خلف الطاولة توقظ فصولاً من الزمن الماضي. تنبش ما أودعته في خزائن نسيانها...
(2)الطفلة التي كانت تدرج في أزقة القرية. أخذت تكبر وتكبر. حتى أصبحت فتاة القرية الأولى في الجمال. الفم وردة. العينان من مخمل الغسق. الوجه نجمة الصبح و... تنهال الأوصاف....
قال الأب: الزواج سترة البنت.
قالت الأم: البنت مازالت صغيرة. ولتبقَ في مدرستها. إنها ذكية. أخبرتني معلمتها.
في الحقيقة لم تنس ((البنت الجميلة)) تلك الفرحة العارمة التي غمرتها حين نالت شهادتها الابتدائية. وزغللت في عينيها آنذاك مدن الأحلام المجنحة...
قال الأب: الشهادة الابتدائية تكفي تعليماً، لأية بنت في القرية. فأنا لا أدع ابنتي تذهب إلى مدارس العاصمة.
فلنفتش...
قاطعته الأم: البنت لم تلحق بالنساء بعد. وفهمك كاف!
*إذن لننتظر ونفتش في الوقت نفسه...
***
كان يعد الشاب الأول في التحصيل العلمي، بالقرية. نال شهادتين دراسة حرة، وفي الجامعة اختار الاختصاص الذي يلائم عصاميته وميوله. كان مولعاً منذ الصغر، بقصص بني هلال، والأدب الشعبي ككل. وظل هذا الولع يرافقه، ويؤثر في مجريات مستقبله الأدبي .
هذا الشاب الأول في القرية بـ ((العلم)). صار المرشح الأول لفتاة القرية الأولى في ((الجمال)).
نضجت حميدة أيما نضوج بعد ترك مدرستها. هذه السن هي عز سني المراهقة الغضة الرهيفة