ساره
عدد الرسائل : 167 تاريخ التسجيل : 05/05/2008
| موضوع: أمشاج بلون الرماد ( وهيب سراي الدين) الإثنين يوليو 28, 2008 7:18 pm | |
| أمشاج بلون الرماد لهج الرجل نفساً حاراً كاد يشتعل الهواء أمامه.بعد أن جلس على الأريكة أو أجبر على الجلوس من قبل المرأة التي قادته.طنّ في أذنيه: ((العميان كثر في هذه البلاد. فهل تهبط السماء على الأرض، إذا كنتَ واحداً منهم"؟ طبعاً التنديد صدر عن حالة من الضجر. فالمرأة كانت جدَّ متفجرةٍ بأعصابها! الرجل أقضّ راحتها في هذه الأيام. دائماً يناكدها، ويولول. كأنه يقدمُ لها اعتراضاتهِ على العالم. وبكلام فظّ، لم تألفْهُ به من قبل.هي تتراخص له في كثير من الأحيان. لا بأس. فليندب حظه العاثر بهذا المصاب، الذي ألمّ به، وليجرّبْ أبجديات البكاء؛ ((يا لخسارتي التي لا تعوّض! خسارةُ النظر لا تعوّض. العين لدى الإنسان تساوي كل شيء في حياته. بل هي جوهر حياته...)).حقيقة، لم يجانبِ الصوابُ الرجلَ، فبالنظر، أو بالعين –على حدّ تعبيره- تعرّف الإنسان إلى هذا العالم. وتصالح مع مخلوقاته. وطوّر حياتَه. درس. وكتب. وقرأ. و....الرجل يعرف كثيراً من هذه الأفكار السليمة، من خلال سني حياته الخصبة جداً...لاحت ومضة فوضى في أفق ذهنهِ. تنّهد. بل نهض بعصبية. وظلّت ألياف جسمه تهتز إلى فترة ((فقدانُ النظر أمر فظيع للمرء في حياته. و....)).ظلّ يرغي ويزبد. كأنه يشاطئ بحراً من الغضب!أجابته المرأة. وأجلسته ثانية، في مكانه. وثمةَ إشفاقٌ يتقرى وجهها المؤطر بعصابة: "إن كنتَ فقدتَ نظرك فاحمدِ الله، أنك لم تفقد عقلك. فدماغك ما زال معافىً في جمجمتك. تفكر به جيداً. وتدرك الأشياء.. و...)).قاطعها بعنف. ومازال يرتجف: ((لم ينقصني سوى الدخولِ إلى مصح عقلي))!-((مُصيبة أخف من مصيبة)).عاد وهزّ رأسه متذمراً من هذا المثل المبتذل، الذي جابهته به. يا للحماقة! ثم جلس. وسكت. سرح يفكر في ماضيه. يسترجع ذكرياتِ نسيانه، ويعيدها إلى ساح وعيه.بعد قليل، انتابه شعور حاد. نفخ نفسه الساخن. ونهر المرأة: ((هاتي المسجل وضعي الشريط فيه)).أجل اعتاد أن يطفئ غضبه بسماع أشرطة التسجيل التي يحتفظ بها. كانت الإذاعة بثّتها، بأقلام نقاد، تكلموا عن أدبه القصصي. لم ينس أنه قاص متمكن. ولم ينس أمجاده التالدة، في هذا الجنس الأدبي. استعرض كذلك –في مخيلته، لا في أذنيه فحسب –صور أشرطة الفيديو، في حفلة تكريمه. وفي مقابلاته التلفزيونية العديدة...عصر قلبه حسرة وألماً. كأن اندلق في بطنه رصاص مصهور. نهض بقوة. وهذه المرة تلمّس عصاه من حافة الأريكة. حتماً عزم على أن يخرج من البيت. ((هذه عيني)). /قال ونفخ بحنق. ماعتِ الغرفة وأضحت كالهلام من شدة الزفير!ردّت المرأة –ولتلطف الجو بمزحةٍ-: ((وأنا عينك الثانية. هيه)).على الرغم منه انتشرت على وجهه ابتسامة. هذه المرأة تَحْمِلُ بطبعها أفكاراً بسيطة، غير مركبة. ولكن فطن: كلامها يعني أنها سترافقه.دبّ قليلاً بالعصا، في أرض الغرفة، اصطدم بخزانة ثيابه. تذكّر كم مرة صمد قامته المديدة، أمام مرآة الخزانة. وراح يستعرض علاقته معها حين كان لا يغادر المنزل. إلا بعد أن يودّعَها بوقفة حميمة. يشاهد فيها طلعته المهيبة. قيافَته المناسبةَ لكاتب، له اسم في سجلّ (البلد) الأدبي: الرأس الذي يغمره شعر غزير مخلوط بالأسود والأبيض. الوجه الممتلئ المغضّن، الذي حفرت فيه همومُ الكتابة، ومخاضاتُ الإبداع أثلاماً عميقة....ولكم اعتدّ بهيئته هذه. حين كان يرف شاربه اعتزازاً: ((الأديب الذي لا تترك فيه عناءات الأدب آثاراً. ليس بأديب)). /كان يتمتم مقولته الحكيمة تلك. ويليح برأسه الكبير.هذه المرةَ طال وقوفه بجانب المرآة. أيحطمها بالعصا، أم يشدُّ شعره؟!...! لشد ما هصر قلبه دماً حين لاحت له صورة وجهه في مرآته الداخلية. وهي تبرق بتينك العينين السوداوين الواسعتين. تسطعان كنجمتي صبح. مدّ يده إلى مكانهما، في أعلى وجهه. لقد غارتا تحت أصابعه، واندملت حفرتاهما بسمال الجلد والشعر. تمتم: ((هذا فعل (الساد). فعل الماء الزرقاء. الماء السوداء. فعلُ كل أمراض العيون، التي انصّبتْ عليهما مع التعاويذ؛ عندما كنت صغيراً... آه.. ولكن، بعد أن كبرت كنت أنا السبب. أنا الحاسد. وأنا المرض نفسه. لقد استعملتهما كثيراً... كثيراً... خمسَ عشرةَ ساعةً، في اليوم لا تكفي في القراءة والكتابة؛ أهذا عدل))؟لم يبرئ الرجل ذمته، تجاه عينيه. كان عليه أن يرحمهما ويخففَ من استخدامهما ما أمكن.على كل حال. همّ أن يحرك جثته المنتصبة أمام الخزانة. ولكنه لم يدرِ إلى آية جهة يتجه؟-((أيتها المرأة. افتحي لي الباب. يكاد يغمي علي)).ولما سمع صرير الباب مشى. غير أن عصاه لم تر الكرسي. فتعثر به.-((قلتُ لكَ: لا تخرج دوني.أ.أ... أرغب في أن تبقى هنا الآن. الهواء في الخارج نار)).-((أف من حياتي هذه! في الداخل نار. وفي الخارج نار)). /تذمّر وتابع:-((إذن أرجعيني إلى أريكتي. وضعي شريط المسجل)).وانطلق حديث أدبي. كان يدور عن ندوة أدبية، بين ثلاثة نقاد. تكلموا عن القصة القصيرة. وسمع اسمه. لم يعد يعي ما ذُكِرَ عن دوره، في القصة. صرخ: ((أوقفي المسجل)).وعقدةٌ بين حاجبيه لا تفكّ!لبّتِ المرأة طلبه، بروح طيبة. ثم قالت: ((أتريد قهوة))؟-((لا.. لا.لا)). ردّ بعصبية مقاتلة... تذكر أن فنجان القهوة. كان دوماً يرافقه مع كتابهِ وقلمهِ. وهو الأقنوم الثالث له حين يكتب؛ كأن ماءه البني هو الحبر الحقيقي، الذي ينثال على الورق بياناً وسحراً. يأخذ الرشفة، ويحس أنه صار يخفّ ويشفّ مع جدائل البخار المتصاعدة، كروح رهيفة. تريد أن تملأ فضاء الغرفة.وحين يتمطق لسانه بالمذاق، الذي لا أزكى، ولا أطيبَ. يذوب في بحر عالمه الفني. فيفيض ذهنه بالرؤى والأخيلة، وشتى التصاوير.-((القهوة سيدة المشروبات، التي اكتشفها الإنسان))!/ وليتكلم عنها في أثناء عمليات الخلق الأدبي...أما الآن. فليعزف عنها طالما أن أدواتِ إبداعه معطلةٌ. وطالما هو محبوس في قفصه الجسدي. عفواً في قفص عماه...تكرر المرأة: ((فنجانُ قهوة يهدئ أعصابك)).-((لا شيء يهدئ أعصابَ من كان مثلي. أصبحت صقيعاً، أيتها المرأة. أنا ضرير))./ نطق بوجع مدمى. كالذي أتى تواً من مقبرة. ثم تابع: ((ولكن أنا ضرير من نوع خاص، من نوع الصفر. لا من نوع العميان العباقرة المعروفين، الذين يشاهدون العالم من داخلهم. وَيَرَوْنه بعيون صدورهم... اييه! أنا أعمى صفر. لم يبق لي في حياتي إلا مخيلتي)).../ ثم سكت بأسى. وطفق يصيخ سمعه إلى الصوت المذبوح، في المسجل... ÞÞÞ | |
|