قادم من أقاصي الذهن
ذراري النفس تهوّم في غبش لا متناهٍ.
ثمة ذبابة تعرّد في فضاء ظلام مطلق. تئزّ بأجنحتها هائمة لائبة. تبحث عن فرجة نور تنفذ منها.
شخوص هلامية تسبح في بحور العتمة. تتتالى. ثم تتلاشى فوق لجج صاخبة.
يا لعالم الليل الفسيح المليء بالأخيلة والأحلام، وأشباح الرؤى! كم من رغباتٍ وكنوز يخبئها، في غبار سديمه؟
أمّا العالم الخارجي ذاك. فهو كناية عن علبة مكعّبة، من الإسمنت. تنحسر وتضيق، ثم تأزم وتكاد تحدث انفجاراً.
حقيقة الوضع لديها جد قلق، وغير مرضٍ. وبخاصّة عندما تكون في حالة اليقظة. أتبقى، يا ترى، في نوم دائم. أي في سبات. حتى تظل عائمة.
وتتحوّل روحها إلى رسائل، وشيفرات محمومة. تتفجّر بآلاف الرغبات والأماني؟
الوعي في حصار وريبة؛ طالما تلك العزلة، في وحدتها، بشكل جائر ومستبد!
شقة سكنية في عمارة. ورصيد كبير، من المال، تورثهما عن أبيها، كوحيدة له. لا يشكلان لديها حياة. الحياة تحتاج إلى شرائط أخرى. ولا سيما عند المرأة!
النسوة في الشقق المجاورة. لهن وضع غير. على الأقل تصلهن رسائل من مسافرين: أزواج. أو أقارب. أو أصحاب...
-ولتحصر اهتمامها في هذه النقطة –أيجوز ساعي البريد. ذاك الرجل ذو البذلة الخاكية الزرقاء، والقبعة ذات الواقية الكبيرة. هو الذي يمنع عنها رسائلها؟
هو الذي تراه كل صباح يزمر ببوقه، في أذنيها، دون جدوى. ممتطياً صهوة دّراجته الهوائية. يدخل الباب الرئيسي. يفتح العلب البريدية. بل يقرع الأجراس. وينادي الأسماء، ليسلّم الرسائل، ويقبض المكافآت...
وبعد أن تجري كلاماً شجياً مع نفسها. تعود إلى جنّتها المفقودة. حيث الأحلام، والخيالات، والرؤى الحميمة –داخل الجفون –وتجوس تضاريس ذهنها تصاوير برّاقة، وتزاويق، وتلاوين. تتملاها بمشاعر ساخنة وتعكسها بمراياها الداخلية: شكله جميل. وجهه طافح، فيه شارب خفيف أسود. والجذع عامر. القامة فارعة...
وتلاحقه في صحاريها الشاسعة، وتأخذ منه وعداً، ولو رسالة. يسلّمها إياها ساعي البريد.
إذن هي ستصلها رسالة كباقي النسوة. ولتنتظر صباح الغد بفارغ الصبر. متى سيأتي ساعي البريد، حاملاً معه تكل البشارة الموعودة؟ ثم تغمض عينيها لتعود تسلَّل إليه كاللحظة الجميلة. وتغدو كفراشة تطير فوق اللهب. وتحرق أجنحتها.
ثمة تلويحة "تشاور" لها. كانت تلويحة خجلة. غير أنها مملوءة بالوجد والنشوة. أجل هو متوفّز لرائحتها كأنثى. وتندفع نحوه كسمكة في عرض اليمّ. وتوشك أن تقبض على ضالتها. ثم تشيح عنها. وترجع بالخيبة. وبعد هذا اللوبان. لا تجد غير السراب. سراب بحرها الخادع!
كيف؟ كان قد ألاح لي بيده اليمنى. وبَرَقَ فيها شيء أصفر. آه...!
كم هو رائع وجميل الخاتم يلمع في "إصبع البنصر"، ويؤطرها...
وأخذ خيالها يغزل لها عرانيس، من المخايل الخلاّبة: عصفوران يقفزان فوق الأشجار. يبنيان عشّهما قشّة قشّة. طائراً خطّاف يأتيان في موسم الربيع ليجدّدا الحياة...
تهدهد نفسها. ونواقيس الفرح تقرع في غياهبها. ثم تعود تستيقظ إثر بوق ساعي البريد.، الذي يثير الدهشة في كيانها من جديد. تستعيد ركام أيامها الرمادية: أين رسالته لي؟ لم يسلّمني إياها (الساعي).
وتغطس في حندس يقظتها مكتئبة.
عالم اليقظة مسربل بالسواد. ولكن لم تيئس بعد. بل ثابرت بعناد الأنثى:
"ستصلني رسالته في اليوم الآتي".
تتعشم قمح الأماني. وساعي البريد يدور على الأبواب. يدقدقها. يقرع أجراسها. وينادي صاحبات الرسائل...
هي من جهتها تبقى تصيخ السمع بأذنين مرهفتين كأذني فرس. علّها تسمع نأمة ما تفصح عن اسمها. ثمة قلق حائر على وجهها. تهرع إلى الشرفة. وتصرخ بأعلى صوتها. كما يفعل المجانين: "اسمي ولهى... يا ساعي البريد". تذكر اسمها الأول. وتتركه مفتوحاً عن قصد. لتربطه يوماً ما بصاحب (الاسم المنشود)، الذي فطن بها أخيراً وكتب لها رسالة.... ولما لم تسمع اسمها. تساورها الشكوك: ساعي البريد هو الذي يحتجز الرسالة. حتماً توجد لي رسالة بين الرسائل التي يوزّعها.
وتنفعل كأنها كلها إرادة لتصلها رسالة: يا ساعي البريد، لك عندي "إكرامية" مجزيةٌ، أين رسالتي
يا للخيبة! يسمع ساعي البريد. ولا يلتفت إلى الوراء.
يميّزها الغيظ. لو يعلم هذا الغبي مقدار المبلغ الذي سأكافئه به؟
سيفوق أضعاف مكافآت سلمى، وهيفاء، و....
تعود، وتنغلق على نفسها. دون أن تأخذها هواجس، من جهته.