إنها لم تغادر
تلبّسني من كل جهاتي، وأظهر سياطه: "هيا اخرج وإلاّ...".
كنت خانساً منزوياً في ركني. هجرني النوم والأكل. وغادرتْ وجهي ضوءات الفرح والابتسام. لقد اندحر كل بصيص في أعماقي، ووجودي.
-"هيا اخرج" /كرّر بحزم/.
ما زالت سياطه مشهرة، من أين جاءني هذا العفريت؟ أية أرض أنبتته؟ أنت أيها المنقضّ علي كالسيف، مالك ومالي؟
أنا حر في ممارسة بؤسي وحزني.. تعاستي تكفيني.
-"لا.. لا" - /نهرني بشدّة/ -ثم تابع: "قمْ وسرْ أمامي، بل بجانبي، أو فوقي، أو داخلي، أو...".
واقتحمني بقوة، وغلّفني من كل أقطاري، وهيمن عليّ كلية.
حقيقة: خفتُ منه. فانصعت له، ولهذا أطرحت ركني الكئيب، وخرجت بصحبته القاسية العنيدة.
أجل، كنت قد عانيت من آلام الوحدة، وكوابيس العزلة ما عانيت، حتى نحل جسمي، وشفّ جلدي. وأنا أركع في محراب ذكراها. اتخذت قاعدة؛ على المرء أن يظل قابعاً في يأسه وحروده، إذا ما أصابته مصيبة، وليعزف الصمت في داخله، سيمفونياته، إلى ما يشاء!
وأجدني قد أمضيت أياماً وليالي، وأنا أنتحب وحيداً، أنا والسماء، أبكي وأعول، على رحيل (وفاء)، حاولت أن أثنيها عن المغادرة فلم أستطع، قالت: "هذا هو قدري، يا (سليم). فعمري محتوم. الوداع".
وطأطأ القدر نفسه بخشوع أمام صورة مرسومة بدمع عينين ذابلتين.
هذا هو الفراق الصعب، بيني وبينها، الفراق الذي لا لقاء بعده. ولا رجعة فيه. غادرت وتحمل معها شيئاً من اللا نهاية. وهنا يكمن السرّ العظيم لهذه المصيبة التي ابتليت بها. (وفاء) تساوي عندي كل الدنيا. فخسرتها، وخسرت معها الدنيا. فحياتي صقيع. والدنيا أضحت كلها ورقة خريف صفراء...
-"بماذا تفكّر"؟ / نهرني مرة ثانية.
نبستُ، وأول مرة أنبس له بشفتي: أنت تعلم ما الذي أدرته في بالي.
جَهَمَ وجهه بي بعبسة هائلة: "ليس فراقها أبدياً كما تعتقد. بل تقدّم معي وستجدها".
يا الله! أهذا صحيح؟ أيجوز أن ترجع (وفاء)؟ ولكن هذا محال... محال...
بيد أنني أسرعت الخطا، كأنني أصدّقه، ما حيلتي به، وهو يحزمني معه، ويلفني، كأنني محدلة. أو صرة خرق. كدت أنسى نفسي، وما بها من هم وبؤس، وأنا أتخبّط ببعضي وأمشي. لم أعد أفكر كيف فارقتني (وفاء). ولا كيف لفظت أنفاسها الباردة بين يدي.
كأنَّ القوة والخوف "لازمتان" ضروريتان، للإنسان في حياته...
إيْيْه...! كم مرة اعتملت الثورة، في داخلي، على فراق (وفاء)، انعكفت على ذاتي، زهدت، انكمشت إلى درجة حجم البصلة، أياماً وأسابيع قضيتها، وأنا منطوٍ، أناجي طيفها من على ضفاف الدموع، وأحملق في النجوم.
علّني أعود وأرى نجمها الذي انطفأ! وكم مرة وقفت في باب خزانتها. استعرض فساتينها الغوالي، وأشياءها الدافئة، وأنظر إليها بعيني الداخليتين.
أرى قوامها الحميم الأنيس، ووجهها البهي المجتبى. كأنها لم تغادر هذا البيت. أيكون هذا حقيقة؟
اليوم، وأنا أمارس طقوسي معها. وأمام خزانتها بالذات، بصمتي المعروف ونفسي الهامدة. لاحت لي في المرآة صورة. أهي صورتي، أم صورتها، تلك التي انعكست في مقلتي؟ كلمتها: "وفاء... وفاء...".
ردَّت: "نعم يا سليم".
يا للروح! لقد أجابتني بصوتها الحنون، وبحتها العذبة، تابعتْ: "إنه الموت يا سليم"!
اعتكرت... ولا أدري كيف ارتميت على خشب الخزانة.
من أين نَبَقَ فيّ هذا الشيطان الرجيم، الذي هزني من داخلي، وتعبّأ كياني؟ ثم أخرجني تحت تهديد سياطه. إلى أين؟ لا أعلم. إنما أقبل حين غشيني ذلك الضباب الكثيف، كالهلام. بل اعترف أن إغمائي هذا كان رفيقاً رحيماً بي أكثر منه، إذ رفعت إلى الفضاوات الأعلى حيث الهدأة والسكون. وهناك وجدتها مرة ثانية. كانت مصمّغة كالشمع، شفّافة كقالب بلّور. ناديتها: "وفاء"...
عادت ورفت شفتاها: "سليم"...
يا للنطق السامي. كدت أنشطر شظايا، من فرط اندهاشي وسعادتي، أنا صرت كالذي عاد، من الجنة، توّاً....
أ.. أ.. غير أن سعادتي هذه لم تقوَ على ردع استبداد هذا الصاحب، الذي لازمني كلية. كأنه انبثق مني. أيكون إشفاق قد أخذه عليّ، بعد أن رأى أن الدم طفر من جبهتي، وأنفي. وسال على الثياب والخزانة والأرض؟
أف! عدت ورضخت لسطوة هذا الكائن الوافد: "أهذه حالة، يا سليم؟ قمْ اغتسل...".
ثم كرّر: "أستحلفك بها. أترضى، هي، أن تؤول بك الأمور إلى هذه الدرجة؟...
نفخ نفساً لاهجاً. ثم تابع: "هيا قمْ".
وقمتُ.
-"ستراها هناك".
وسرت. وأنا أنظر معه إلى الشرق.
كانت الشمس معلّقة بين شفتي الأرض والسماء. نجيع من اللون القاني انداح في الأفق المطلق.
"هذا هو لون الدم، العالم حزين مثلي". /همست في داخلي/.
سمعني، هو، كأنه يتجسّس علي، في كل تضاريس ذهني.
نَبَرَ بلهجة حادة: "اسكت، سترى، بعد قليل، كيف يكون الشروق. ويعمّ الضياء الكون، بأسره، تابع سيرك".
تابعتُ.
صَعِدتِ الشمس، في أثناء سيرنا. واشتدّ شعاعها المبهر. فتلألأت الأمكنة، وامتلأت بذراري الألوان.
-"فتّش عنها هنا".
وقفت حيث روضة بهية. تشيع بالحركة والحياة. رحت ألبي طلبه، أتكون (وفاء) غادرتني إلى هذا المكان حيث الطبيعة الحالمة يا ترى؟
كانت الأشجار تميس مع هبات النسيم الطرية، والأزهار تتفتّح أوراقها. وتسطع بلورات الندى على (بتلاتها)، وعمّ الهواء ضوع عطر، لا أذكى ولا أطيب.
-"ابحث عنها". / دائماً يكرر عليّ.
ثمة نشوة جارفة اعتملت في شعوري. فعلاً تغيرتُ عما كنته.
أحسستُ أن قلبي راح ينشرح، ويتسع كالبحر.
غرغرت حَنجرتي: "سأبحث عنها".
وأخذت أدور بين ثنايا الغياض والمروج. ومسارب الأدوية، وحنايا السفوح، أسائل الزهر والشجر والطير عنها.
كانت موسيقى الدغل تصدح بمعزوفة الصباح على رفيف الأريج المنبعث من كل جهة، حيوية دافقة دبّتْ فيّ. رحت أركض وأدور. شعرت أن رائحتها، هي، امتزجت بهذا الكون من حولي، حتماً سأجدها كما قال لي صاحبي: بل سمعتها هي كأنها توحوح لي، من خلال بقع الغابة الزرقاء: "تملَّ، بروحك هذا الشذا، يا سليم".